وافق المجلس العسكرى على فتح باب الترشح لانتخابات الرئاسة فى العاشر من مارس المقبل، وبعد ذلك بساعات خرج علينا الدكتور كمال الجنزورى يؤكد- كمسؤول- أن المجلس العسكرى سوف يسلم السلطة فى الموعد الذى حدده بآخر يونيو 2012. والمطلوب الآن من الشعب أن يصدق هذه الوعود، كما صدّق فى شهر يناير 2011 وعد المجلس بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية وتسليم السلطة خلال ستة أشهر (أى فى يوليو 2011)! وكما صدّق وعد أعضاء المجلس العسكرى بعزمهم على عدم استعمال السلاح ضد مصرى واحد! وكما صدّق من قبل أن المجلس باع «المخلوع» واشترى الثورة والشعب الثائر!، وكما صدّق من بعد أن المجلس نقل صلاحياته التنفيذية للجنزورى بعد موقعة «محمد محمود» الأولى!. فى كل هذه المواقف كان المجلس العسكرى يعلن فى تصريحاته ما يتناقض تماماً مع تصرفاته على الأرض، مما يعنى أن هناك فجوة ملء السموات والأرض بين التصريحات المعلنة لأعضاء المجلس العسكرى والترتيبات الخفية التى تتم فى الغرف المغلقة! هذا التناقض بين المعلن والخفى دفع الثوار إلى الدعوة للإضراب عن العمل يوم أمس والدخول فى حالة عصيان مدنى، وقد استشرت الدعوة خلال الأيام الماضية رغم رفض الإخوان والسلفيين المشاركة فيها، وخروج مؤسسات الدولة الدينية بالفتاوى المعتادة فى مثل هذه الظروف والتى تحرم الخروج على الحكومة وعصيانها! وأطل علينا الجنزورى أيضاً محذراً من هذه الدعوة وتأثيراتها الخطيرة على البلاد وأنها تعنى نشر حالة من الفوضى، وبعد هذا الكلام أكد أن مصر لن تركع فى إشارة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية ليربط المواطن بين صمود الحكومة أمامها وحالة الفوضى التى تريد أمريكا- وليس الحكومة ولا غيرها- زرعها فى مصر، وكأن المخلوع وتلاميذه كانوا يرفضون الركوع أمامها (ربما سيستبدلونه بالسجود، بأمارة خط الغاز الممتد لإسرائيل الذى تم تفجيره وإصلاحه 12 مرة!)، ومن قبل الجنزورى بساعات كان حديث العديد من المسؤولين عن تآكل الاحتياطى النقدى، وأننا على شفا الإفلاس، وغير ذلك من أسطوانات مشروخة مللنا من الاستماع إليها منذ اندلاع الثورة وحتى الآن. كل ذلك بهدف إقناع المصريين بعدم الاستجابة لدعوة الثوار إلى الإضراب والعصيان المدنى. لكن التحول النوعى جاء من جانب المجلس العسكرى- الذى ينوى تسليم السلطة! - حين فاجأنا يوم الأربعاء الماضى بإصدار تعليمات لوحدات القوات المسلحة بالتواجد بشكل كثيف فى الشوارع داخل العديد من المحافظات لمعاونة رجال الشرطة فى فرض حالة الأمن ومواجهة ظاهرة البلطجة وضبط الخارجين على القانون، خاصة مع انتشار جرائم السطو المسلح على البنوك وغيرها. وقال بيان القوات المسلحة إن ذلك الانتشار يأتى فى إطار جهودها لتأمين المجتمع واستعادة هيبة الدولة ومشاركة أجهزة الشرطة المدنية فى حفظ الأمن وعودة الانضباط إلى الشارع المصرى. ونحن لا نشكك- لا سمح الله - فى نية المجلس العسكرى فى حفظ الأمن، لكن المقلق فى الأمر أن هذه التعليمات جاءت بعد ساعات قليلة من الإعلان عن فتح باب الترشح لانتخابات الرئاسة ووعود تسليم السلطة، لتؤكد من جديد حالة التناقض بين المعلن والخفى وأن الحركة على الأرض تتعاكس تماماً مع التصريحات المعلنة، حتى مع الاحتجاج بذريعة حماية الأمن، لأن الأمر لا يحتاج أكثر من أن «تشوف» الداخلية شغلها فى حماية الأمن العام كما ينبغى، وتتوب عن غيها فى حماية أمن الحاكم الذى أدى إلى إهدار رجالها فى الشارع. وهو ما يعلمه جيداً أعضاء المجلس العسكرى. ولا يجد من يتابع هذا التناقض فى الأداء من جانب المجلس العسكرى صعوبة فى أن يستدعى من ذاكرته المشهد المشابه الذى عاشته مصر فى ظل مجلس قيادة الثورة عام 1954، عندما فوجئ المصريون فى شهر مارس من ذلك العام (وكأننا على موعد مع شهر مارس) بقرار يصدر عن المجلس برفع الحظر عن الأحزاب السياسية وإعادة الحقوق السياسية لأولئك الذين حوكموا بواسطة محكمتى الغدر والثورة، واقترن ذلك بالدعوة إلى إجراء انتخابات عامة للجمعية التأسيسية والتى سوف تمارس صلاحيات برلمانية كاملة، وأخيراً أعلن مجلس قيادة الثورة عزوفه عن تشكيل حزب سياسى، بل إنه سوف يحل نفسه فى 24 يوليو ويعلن انتهاء الثورة!. وقد أعقب هذا الإعلان ولمدة يومين (26 و27 مارس) مظاهرات ضمت آلاف المصريين الذين أخذوا يهتفون (لا أحزاب سياسية ولا ديمقراطية) و(يحيا المجلس)، ويطالبون المجلس بالبقاء فى الحكم، وصاحب ذلك إضراب عام أعلنه زعماء اتحاد التجارة فى 27 مارس، وقام الصاوى أحمد الصاوى، زعيم عمال النقل، بتنظيم إضراب بالتعاون مع القائمين على اتحادات التبغ والبترول، وتم رفع مطلب الإضراب العام لإجبار مجلس قيادة الثورة على التراجع عن قراره بالانسحاب من الحياة العامة. وانتهى الأمر باستقرار مفاتيح الحكم فى يد المجلس. وما يجب قوله فى هذا المقام هو أن اليوم يختلف عن الأمس! وقد كررت مراراً أنه لا وجه للشبه بين المجلس العسكرى ومجلس قيادة الثورة، كذلك لا يوجد وجه للمقارنة بين إضراب 1954 الذى تولى كبره أذناب الحكم حينذاك وإضراب وعصيان 11 فبراير الذى يدعو إليه الثوار من أجل دفع المجلس العسكرى إلى ترك السلطة، والمصريون الآن غير المصريين الذين رضوا بالحكم العسكرى عام 1952. إن هناك رائحة غامضة تسيطر على سماء مصر منذ الخامس والعشرين من يناير 2012، وهناك أحداث تتدفق على الساحة لا تنذر بخير. قبل فوات الأوان أدعو أعضاء المجلس العسكرى إلى فهم حقيقة أنه إذا كان استمرارهم فى السلطة بعد الثورة بدا صعباً، فإن وجودهم الآن أصبح مستحيلاً!