التقينا ذات مساء. تعارفنا بالروح. تكلمنا بالنظرات. ثم افترقنا دون أن نتبادل كلمة واحدة. كام عام ومواسم عدّوا. وشجر اللمون دبلان على أرضه. محمد منير: صوت الجنوب الدافئ يحمل أشجان النوبة الراقدة فى أعماق النيل كقربان بشرى يعانق مصيره فى استسلام. محمد منير: صوت يحملنى من صبا مترع بالأحلام إلى نضج مفعم بالشجون. أتذكرها وجها مريحا. شقراء رقيقة الملامح، لها طابع راق وعملى فى الوقت نفسه. التقيتها فى مسرح الأوبرا المفتوح فى حفلة شتائية ليلة رأس السنة. كان الشتاء يفيض شجونا، والليل يتسع حزنا، ولم يكن ممكنا لقاعة مهما كانت ضخامتها أن تتسع لعشرات الألوف من عاشقى المطرب الجنوبى الذى سلك وعبّد وزرع دروب العاشقين. لم يكن ممكنا ألا ألاحظ هذا الوجه الأليف. تحمل طفلا صغيرا تتناوب حمله مع فتاة أخرى. لم أعرف من فيهما أمه!. وإن كنت قد رجحت أنها الشقراء ذات السمت المهذب والوجه المريح. كان منير يشدو وسط عاصفة هستيرية من الإعجاب. وكانت تصغى إليه والعبرات تنهمر على وجهها الشاحب. قدرت أنها تقارب الثلاثين من عمرها الذى كان واضحا أن محطاته الرئيسية كانت على مشهد من أغانى منير. هذه الأغنية بالذات!. لم أستطع أن أنزع عينى من ملامح هذا الوجه المعذب. كانت شجون الذكريات تتجمع على وجهها الذى صار كصفحة سماء تحتشد بالغيوم. وعلى خلفية من الأضواء الشاحبة المترقرقة تبرق سماؤها وترعد غيومها ثم ينهمر مطرها. وحدى من أنتبه إلى تلك الأمطار الاستوائية تهمى بغير انقطاع، غير قادرة على مسحها وهى تحمل طفلها على كتفيها وتمسك به بقوة بكلتا يديها. تحمله بقوة العشق وتستميت. حياة قلب ومصير عمر. هذه الأغنية سمعتْها، وهى قلب أخضر تطالع دروسها وترتب لمشاهدة السينما مع صديقاتها. وسمعتها وقلبها يخفق لحب زميلها فى الكلية. وسمعتها أيضا والأيام تحفر قبر الحب الأول. كل شىء بينسرق منى العمر من الأيام والضى فى الننى. والليلة تسمعها وهى تحمل طفلها من رجل آخر( هكذا الحكاية دائما). يمكنها أن تبكى بحرقة فى الظلام الشتائى دون أن يراها أحد، هكذا كانت تظن دون أن تعلم أنى طيلة ساعات لم أحول عينى عن وجهها دون أن تشعر. متعبة كانت.. حزينة كانت.. سعيدة كانت.. شريكتى فى التعب والحزن والسعادة. متسربلة فى ظلام الليل تتعاقب على وجهها المبتل بالدموع ذكريات عمرها كله. تصرخ الدموع: وفينك؟.. وفجأة وجدت الفتاة الأخرى تهمس فى أذنها بشىء، فالتفتت نحوى فجأة. وتلاقت عينان مخضلتان بالدموع. قالت كل شىء. اشتكت وبكت، وقلت كل شىء. اشتكيت وبكيت. ثم مضى كل منا فى طريقه، ولم أرها بعد ذلك أبدا. [email protected]