يجد المرءُ حرجًا فى الإشادة بمسؤول جيد، مادام فى منصبه. البعضُ يتجنّب ذلك تقيةً من المتربصين على الأبواب ممن سيقولون: ثمة مصلحةٌ للمُشيد لدى المُشاد به، والبعضُ الآخر يتجنبونه امتثالاً لمبدأ «أوكتافيو باث» الذى يطالب المثقفَ بانتقاد الإدارة حتى وإن كانت جيدة طمعًا فى مزيد من الجمال. لكننى، على ذلك، أرى أن الإشادة بالجمال حقٌّ وواجب، تمامًا مثل انتقاد القبح، لأن كلا الفعلين يصبُّ فى حقل الانتصار للجمال. واليومَ، وقد ترك الشاعرُ الصديق سمير درويش منصبَه كمدير عام لفرع ثقافة الجيزة، بعد عامٍ من الإنجازات الجادّة الطيبة، يحقُّ لنا أن نقدّم له الشكر والتحية لما قدّمه خلال عهده القصير من توعية وتثقيف الفئة التى هى أحقُّ بالدعم الفكرىّ والمعنوىّ من بقية فئات المجتمع. فئة البسطاء والمهمشين والأطفال، الذين هم هدفٌ سهل للفكر الظلامىّ، بل التخريبى أحيانًا، ومن ثَم وجب أن تكون تلك الفئة محطَّ النظر الدائم لكل المؤسسة الثقافية، جماعاتٍ وأفرادًا. شهدتُ احتفالاً بيوم اليتيم. مائة طفل ربما، على قسماتهم تطفرُ مظاهرُ الحرمان من دفء الأسرة، جاءوا فى ثياب المدرسة، حقائبُهم على ظهورهم، يصطفّون، ليحتمى بعضهم ببعضٍ. على أنهم سرعان ما تفاعلوا مع فقرات البرنامج الفنىّ المعدِّ لهم. يحدث هذا ونبتهج لحدوثه. ثم تغمرنا البهجةُ إذْ نعرف أن العاملين بالفرع، وهم موظفون حكوميون مطحونون، جمعوا من مرتباتهم النحيلة ليشتروا هدايا للأطفال علّ الفرحَ يدخل قلوبَهم المسكونةَ بالصقيع. كما وجهوا الدعوة لعدد من الفنانين تطوّعوا ليزرعوا فى أرواح الصغار قيمًا ثقافية وفنية، ستنمو بالتأكيد معهم. الشىء نفسه تمَّ مع أطفال معوقين، حظوا بورش فنون تشكيلية يومية، وعروض مسرحية هُم أبطالُها. وفى عيد الأم، احتفلوا بمائة سيدة مسنَّة، ممن بذلن أعمارهن لأبنائهن، طفرت عيونهن بالدمع فيما يتسلمن دروع التقدير التى صنعها درويش وموظفوه بالجهود الذاتية. سألتُه: أليس من دعم مادىّ لأنشطتكم؟ أجاب: لو انتظرنا الدعم لن نخرج من بيوتنا! أما دُرّة العقد فكانت تلك الاحتفاليات الراقية التى أعدّوها لعمال النظافة، ثم السائقين والكمسارية، فى عيد العمال، الذى لم يجعلوه فى أول مايو وحسب، بل بسطوه ليشمل جميع أيام السنة. فى تلك الاحتفاليات، ظلّ العمّالُ المحتفَى بهم لوهلة متوجسين غير مصدقين أن أحدًا قد اِلتفتَ أخيرًا إليهم، فى زمن لا يسلّطُ الضوءَ إلا على ذوى النفوذ! ولا أنسى نظرات الرضا فى تلك العيون المجهدة، لحظةَ تسلّمهم هداياهم وشهادات تقديرهم، فيما ينصتون إلى كلماتٍ تثمِّن جهدهم. إن لم تكن رسالةُ الثقافة الأولى الالتفاتَ إلى الهامش الاجتماعىّ، فلا كانت الثقافةُ، ولا كان المثقفون. وبالتوازى مع هذا الخط التثقيفى للبسطاء، اهتم درويش بالتثقيف النوعىّ فأنشأ صالون الجيزة الثقافى وبنى أكشاكًا للموسيقى فى الشوارع. وإن كان الشعرَ قد استعاد الشاعرَ من الإدارة، إلا أن الهيئةُ العامة لقصور الثقافة خسرت مثقفًا واعيًا ومديرًا فاعلاً، نرجو أن تعوضنا بمثله فى القريب لكى يستمرَ النهجُ الرفيعُ الذى رسّخه، مثلما نرجو أن يمتدَ عطاءُ درويش فى منابرَ تنويريةٍ أخرى. [email protected]