لأن معظم الثوار اعتبروا أن ثورتهم كانت ثورة على نظام مبارك وحده وليس ضد حركة يوليو 1952 فقد رحبوا بصعود المجلس العسكرى إلى الحكم فى فبراير، ولم يلاحظوا أن الذى حدث فعليا كان امتدادا لعملية تداول السلطة المتعارف عليها خلال العقود الستة الماضية، فلا شك أن من وجهة نظر مبارك ونظامه بدت عملية تسليم السلطة للقوة التى ورثوا منها الشرعية إجراء طبيعياً، لكن الغريب كان القبول غير المشروط من قِبل الأغلبية العظمى من الثوار والجماهير التى ساندتهم خلال ثورتهم.. وأيضا قبولهم لفكرة أن القوات المسلحة هى المؤسسة الوحيدة المتماسكة، وفى الوقت نفسه عدم التساؤل، إذا كان الحال فعلا كذلك: لمن ستسلم هذه المؤسسة السلطة؟ هل ستتبلور فجأة مثلا مؤسسات بديلة متماسكة يمكن لحكومة منتخبة استخدامها لإدارة البلاد دون عمل جماعى جاد؟ ومن سيقود تلك الحكومة، خاصة فى غياب قيادات سياسية وفكرية فعالة وتوافقية؟ نتجت ظاهرة توحد الشعب والجيش تلقائيا فى أعقاب انتفاضة يناير عن عدة أسباب، منها المنطقى، مثل دور الجيش المحايد خلال انتفاضة يناير، لكن معظمها لا شعورى، جاء نتيجة خضوع البلاد لما اعتقد أنه أطول فترة متواصلة من الحكم العسكرى، العلنى أو المستتر، فى تاريخ العالم المعاصر.. الوضع الذى أدى إلى عسكرة المجتمع المصرى، حيث سيطرت معايير الهيبة والقوة على علاقات الناس وتدنت قيمة مفاهيم مثل الحق وسيادة القانون والمنطق، حتى فى التعاملات اليومية، فصار الإنسان المصرى إما مأموراً أو موزعا للأوامر، حسب طبيعة الموقف وعلاقات القوى التى تربط من يشارك فيه.. فى الوقت نفسه، غاب عن الخطاب العام تقريبا مفهوم التوافق من خلال الجدل العقلانى وطرح الأفكار ونقدها جديا، من خلال المنطق والحقائق، فساد الخطاب الفوضوى الذى يفضل منطق القوة على قوة المنطق. ولأن القوة فى يد القوات المسلحة، والأغلبية الساحقة من الشعب مقتنعة بقيم القوة والهيبة ومعجبة بها، فليس من الغريب عدم ظهور قيادات تتمتع بمساندة شعبية تمكنها من التحاور بطريقة فعالة مع المجلس العسكرى، فى سبيل تنظيم إدارة المرحلة الانتقالية، بل ربما لأن الشخصيات السياسية نفسها معظمها لا يتخيل أى وضع مغاير، تتعامل فيه مع من «يأمر» بندية، ظل الجيش يأمر ولا أحد يجادله... وربما هذا التخيل المفقود كان سبباً أيضا لعدم ظهور قيادات فعالة من الميدان، رغم كل المليونيات التى تبلورت منذ تخلى مبارك عن السلطة.. بل إن مطالب تلك المليونيات كانت متعددة ومتضاربة، ومعظمها كان يسير فى اتجاه تفويض المجلس وحكومته باتخاذ قرارات ذات آثار طويلة الأمد، قرارات من المفروض أن تترك للحكومات المنتخبة. فى المقابل كان هناك موقف الإخوان، الذى قبل مرحليا على الأقل علاقات القوة القائمة، فحاول التحالف مع المجلس وحكومته. وظهر ذلك بفجاجة يوم 23 يوليو الماضى، فى الذكرى التاسعة والخمسين ل«الحركة المباركة»، التى تحالف معها الإخوان فى البداية، بل كان العديد من ضباطها أعضاء أو مؤيدين لجماعتهم، وكان القاسم المشترك بينهم هو كراهية النظام الدستورى التعددى المتحرر نسبيا، الذى حكم مصر قبل 1952، الرفض الذى نبع تسبب فى الصراع بينهم فيما بعد.. ويبدو أن فى 23 يوليو 2011 اعتقد الطرفان أن الوقت كان قد حان لاستئناف تحالفهم رسميا. والنتيجة؟ فى الساعة نفسها التى كان يُطحن فيها المتظاهرون السلميون فى العباسية، أقام حزب الإخوان حفله التأسيسى، بحضور منصور عيسوى وعلى السلمى، السلمى نفسه الذى انقلبوا عليه حين جاء بوثيقة هددت مشروعهم الشمولى. من دخل ميدان التحرير عن طريق «كوبرى 6 أكتوبر» مساء الثلاثاء الماضى ربما لاحظ وجود عدة «مجتمعات» تتقاسم المساحة من الكوبرى وحتى شارع محمد محمود.. فوق الكوبرى، حياة شبه عادية، تشاهد من يصطاد السمك أو يحضر الفول السودانى ويقدم المشروبات.. فى الطريق إلى الصينية الوسطى ترصد مناخ التحرر الخلاق الشبيه بما كان قائما معظم أيام انتفاضة يناير.. وفى شارع محمد محمود معركة وجودية «غلاوية» بين قوات عيسوى، المدافعة عن الوضع المتميز الذى خلقه لها نظام يوليو، وبين الذين رفضوا تراثه القمعى، فثاروا على الذل الذى تعرضوا له وتعرض له معظم الشعب.. ورغم كمية العنف الرهيبة رفض الإخوان التواجد مع، أو الدفاع عن، هؤلاء- فى تضامن ضمنى مجدد مع بقايا جمهورية يوليو. كل الفئات تحت الكوبرى أقليات، السؤال الأهم يتعلق بموقف الأغلبية الصامتة فوق الكوبرى: هل ستختار الحرية، أم ستنبهر مجددا باستعراضات القوة والهيبة الكامنة فى جوهر العقلية التسلطية القمعية، وهل ستتخلص القيادات من رواسب عقلية يوليو فتسهل عملية الاختيار؟ [email protected]