بالأمس القريب، قبل نصف قرن، وهو لمحةٌ خاطفة فى عمر الأرض، كان النورُ بمصر باذخًا، ونقاطُ العتمة ضئيلةً واهنة، تتلقّفُها الصحفُ والصالوناتُ الفكرية، كمادةٍ صاخبة للكتابة والحديث و«التندّر»، بوصفها «نادرةً». والآن، فى عصر الرِّدّة الفكرية الذى يمرُّ بمصرَ منذ أربعين عامًا، انقلب الحالُ فباتت نقاطُ النور ضئيلةً وسط مساحات العتمة الشاسعة التى ظلّلت مصرَ الجميلة، التى يومًا، قبل سبعة آلاف سنة، أشعلتْ شمعةَ التنوير الأولى فأضاءت ظلمةَ الكون، وقتَ كانت الأرضُ، بمَن عليها، ترفلُ فى الهمجية والجهالة.. لكن نقاطَ النور الراهنة، على نُدْرتها، بل بسبب ندرتها، تلمعُ ناصعةً تخطفُ العيونَ والقلوب، فنحجُّ إليها، نتحلّقُ حولها، كما قَبَسٍ هادٍ يفتحُ كُوّةً وسط السواد المقيم. الدكتور أحمد مجاهد، رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة، يعدُّ إحدى تلك النقاط المضيئة فى راهننا.. ذاك أنه لم يُثبت، وحسب، أنه مستنيرٌ، كما يليق بناقد أكاديمىّ ومثقف قيادىّ فى موقعه، بل أثبت كذلك أنه «مقاتلٌ» فى سبيل الاستنارة، وفى لحظات التاريخ المنحدرة فكريًا، ليس يكفى المستنيرون يحملون «فى صمت» شعلةَ التنوير للعامة المُضلَّلين، بجزرة صكوك الغفران الوهمية، أو بعصا الإرهاب التى يلصقونها كذِبًا بالسماء الطيبة، بل يلزمنا مقاتلون يضخّون «بقوة» قبسَ الوعى السليم فى عقول الناس، غير هيّابين سطوةَ سيف يرفعه فقهاء زوايا يسيئون للدين ولسمعة البلد كخير ما تكون الإساءة، وكذا مهووسو شهرة يركضون وراء افتعالاتٍ ركيكة من أجل أن يمسّ أسماءَهم بعضُ لمعان، سريع الخبو، لم يقدروا أن يصنعوه بجهدهم وعملهم، (فهم عادةً لا يعملون)، فيلجئون إلى أعمال الغير يحبطونها كى تتجاورَ أسماؤهم مع أسماء الجادين! قبل شهر أصدر أحمد مجاهد نسخةً «أصلية» من «ألف ليلة وليلة»، عن سلسلة «الذخائر» بهيئة قصور الثقافة، واسمُ السلسلة يشى بمضمونها، هى ذخائرُ تراثيةٌ أنجزها لنا سَلَفٌ نابهٌ، كان، فى معظم الأحوال، أكثرَ تطوّرًا من خَلَفٍ يجيد المشى للوراء، فيما العالمُ يركض نحو الغد! نفدتِ النسخةُ، طبعًا، فور صدورها، فالقارئُ يعرف جيدًّا القيمةَ الأدبية الرفيعة لكتاب استلهمه أدباءُ أمريكا اللاتينية، وانبثقت من بين سطوره مدرسةٌ فنيّةٌ سماها النقادُ «الواقعية السِّحرية».. طباعته فى نسخته الأصلية، أبهجَ قراءَ مصرَ، لأن مكتباتنا لا تضمُّ إلا نسخًا مشوّهة مبتورة من الكتاب الأشهر بين فرائد أمهات الكتب، لكنه، بالمقابل، أحنق أولئك الذين يجيدون تكميم الأفواه.. المخجلُ هنا أنهم يسعون إلى تكميم أفواه سلف قديم، أصبح منجزُه قيمةً تراثية وحضارية غير قابلة للعبث. رفعوا بلاغًا للنائب العام ضد مجاهد والغيطانى متوعدين، مُطالبين بسجنهما(!)، أو بحذف ما يرونه «شائنًا» (!) فلم يرضخ أحمد مجاهد، بل وأعلن صدور الطبعة الثانية التى، أيضًا، نفدت على الفور. علامَ راهن المقاتلُ؟ على نُثار نور موجودة هنا وهناك رغم الظلام: الصحف المستقلة، الأقلام الشريفة، الرأى العام فى جانبه المستنير. ولم يخِب رهانُه، فبالأمس حفظ البلاغَ المستشارُ عبد المجيد محمود. تهنئةً لشهرزادَ نجاتها من سيف «مسرور».. وتحيةَ احترام لكلّ مقاتلٍ يحارب الظلامَ الزاحفَ داخل شرايين الوطن. [email protected]