وصلتنى منذ أيام قليلة رسالة بريد الكترونى من أحد الأصدقاء , وكان عنوان الرسالة:" مقالة لفاطمة ناعوت رائعة لا تفوتك" , فتابعت رسالة صديقى وتفائلت لعنوان المقالة:" شىء من الخيال لن يفسد العالم" , ولكن هالنى ما قرأت وأدركت أن الكاتبة المرموقة قد أسرفت فى الخيال حتى غابت عن واقعنا ونسجت بخيالها واقع آخر غريب وشاذ , وقد لا يفسد القدر الذى تخيلته العالم أجمع ولكنه بالقطع يساهم فى إفساد العالم الخاص بنا هنا فى مصر. وشرعت فى البحث عن المقالة حتى استوثق من محتواها ومن مصدرها, وبعد دقائق معدودة تأكدت أن المقالة منشورة بالمصرى اليوم (العدد 2409) بتاريخ الاثنين 17 يناير 2011 ؛ وبشىء من الخيال أدركت أن الرسالة التى وصلتنى منذ عدة أيام يتم تداولها على شبكة الانترنت منذ أكثر من أربعة أشهر , مما يعنى أن البعض أراد استثمار ما فى هذه المقالة من خيال واختزال مخل لأزمة محتقنة فقام بتمرير المقالة إلى فضاء البريد الالكترونى على الانترنت حتى تصل إلى مئات الألوف وربما الملايين أغلبهم من الشباب. ولذلك رأيت ضرورة التعليق والرد على هذه المقالة فى محاولة لتصحيح ما احتوته من خيال لا يمت لواقعنا بصلة وضرره أكبر من نفعه. ولن أكرر ما تخيلته الكاتبة المرموقة فاطمة ناعوت فصدقته ثم اتخذته دليلاً على إضطهاد المسلمون لأخوانهم المسيحيين, ولكن سأكتفى بالتعليق على ما جاء فى المقالة من خيال : 1- المساجد ترفع الأذان للصلاة خمس مرات فقط فى اليوم, فإن كان صوت المؤذن "عذب" فهو المطلوب وإن كان صوته غير "عذب" ولا يطرب فالأذان يستغرق أقل من دقيقة . 2- ليس الغرض من أذان الفجر أزعاج الناس وجعلهم ينتفضوا من نومهم رعباً , والمفترض أن يوقظ الناس لأداء الفريضة ؛ "أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)"-الإسراء. ولكن الحقيقة أن أذان الفجر لا يصل إلى أسماع أغلب النائمين ولا يزعجهم إلا رنين المنبهات بجوار آذانهم. 3- لا يتم استخدام مكبرات الصوت خارج المساجد أثناء الصلاة إلا فى صلاة الجمعة والعيدين وصلاة التراويح لتواجد مئات وأحياناً آلاف المصلين الذين يفترشون الطرقات حول المساجد التى تضيق بهم . 4- لا حاجة لاستخدام مكبرات الصوت خارج الكنائس لاتساعها واستيعابها للمصلين بداخلها , والمفترض أن الكنائس تستخدم الأجراس , ولا أدرى لماذا لا تدق الأجراس المعلقة فى أبراج كنائسنا المصرية؟ 5- المعلم الذى ينكر على التلميذ دينه غير موجود إلا فى الخيال , وطرح الكاتبة لهذا الخيال على أنه واقع متكرر يحدث فى مجتمعنا هو تشويه للواقع. 6- وصف المناهج الدراسية بأنها "مشحونة" بالآيات القرآنية فيه مبالغة ويوحى بفرض تعلم القرآن على غير المسلمين وهذا يخالف الواقع , والحقيقة أن الأمر يقتصر على الاستعانة ببعض الآيات القرآنية – بجانب أبيات من الشعر ومقتطفات من النثر العربى – فى تعلم اللغة العربية وشرح دروس النحو والصرف والبلاغة ؛ "بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)"-الشورى. 7- الكثيرون من البسطاء يظنون أنه من أدب الحديث حشو كلامهم بعبارات مثل "لا مؤاخذة" ونعت الكبير"يا حاج" والحرفى "باشمهندس"...ألخ , واستخدام البعض لكلمة "لا مؤاخذة" لا تعنى بالضرورة الإساءة وقد تعنى الاحترام ولكن العلة على المتلقى , وأما الإيحاء بأنها تستخدم مرادفاً لذكر الكنيسة بقصد الإساءة فهو من صنع الخيال ولم نسمع به من قبل . 8- "العضمة الزرقاء" ليس تعبيراً مستحدثاً وإنما يعود لتاريخ الاضطهاد الدينى على يد الرومان الذين سخروا المسيحيين المصريين في الوظائف المهينة وألبسوهم السلاسل الثقيلة مما أدى إلى ظهور اللون الازرق على معظم اجسادهم نتيجة للألم الحادث من تلك السلاسل حتى عرفوا باصحاب "العظمة الزرقاء" , ولم يخلص المسيحيين من ذلك الاضطهاد إلا الفتح الإسلامي لمصر. والمسلمون الذين يصفون المسيحيين بهذا الوصف جهلاء بالتاريخ , ولا يدرك هؤلاء المسلمون أن غالبية أجدادهم كانوا "عضمة زرقة". 9- معك كل الحق (وأحييك على شجاعتك) فى أن الحكومات قبل ثورة 25 يناير ظلمتنا جميعاً «معاً» ، ولكن مقولتك أن تلك الحكومات كانت تغازل الأكثرية بظلم الأقلية قد جانبه التوفيق ، وكأن المسلمين يسعدهم تعرض إخوانهم المسيحيين للظلم وهذا اتهام مرسل ينافى الحقيقة وأظن أنه أيضاً شىء من الخيال الذى يفسد. 10- أقوال وأفعال بعض المتطرفين المسلمين والمسيحيين ناتجة عن جهل بالدين وبالتاريخ وهى مرفوضة من الأغلبية الساحقة , وليس من الحكمة التذكرة بها لأن تكرارها يشحن النفوس ويعمق الفرقة , ولكن مواجهة الأقوال تكون بنشر صحيح الدين وحقائق التاريخ ومقاومة الأفعال تكون بتطبيق القانون بسرعة وحزم على المخطىء مهما كان واينما كان. وان الأمثلة الدالة على علاقات المودة والمحبة والتعايش بين المسلمين والمسيحيين لا حصر لها , ولذلك كانت أول مرة أسمع فيها – أو أتنبه إلى – مصطلح "الفتنة الطائفية" كان فى أواخر السبعينات من القرن الماضى وكنت فى منتصف العقد الثالث من العمر! ولم أعير الموضوع إهتماماً , ولكن تصاعد الاعتداءات والمواجهات والاتهامات المتبادلة بات يهدد تماسك المجتمع المصرى , واستحوزت الأحداث المتلاحقة على صدارة الاهتمام ؛ ومن متابعتى للأحداث وآراء النخب - فى الصحافة وعلى الشاشات - ومبادرات التوفبق ... ألخ , رأيت أن أحداً لم يصيب كبد الأزمة وأن كل السهام طاشت ولم يصيب واحداً منها الهدف . وتستمر الأزمة ويظل الاحتقان إلى أن تتوافر الشجاعة والإرادة للتنقيب عن الجزور الحقيقية التى تغذى الفتنة وكشفها فى إطار من المصارحة والنوايا الحسنة , وذلك لن يتحقق برفع شعارات المواطنة والدولة المدنية ...ألخ , ولكن سبيلنا لتحقيق الوفاق هو أن تسود روح الثورة وأخلاق الميدان وننجح فى استثمار مناخ الحرية لإرساء قواعد الديمقراطية والشفافية وعندها لا بد أن تتكشف الحقائق وينقلب السحر على الساحر.