تصورت أن الكتابة فى هذه الأيام لم تعد كما كانت «فنا إبداعيا» قائما على علاقة تفاعل واستمتاع تربط الكاتب بالقارئ.. وأن شائع الكتابات فى يومنا هذا ما هى إلا نواح فى عزاء المصلحة العامة، أو التهام وليمة فى إطار البحث عن المصلحة الخاصة. لكننى لم أضع فى حساباتى أو أتوقع أنها ستكون أيضا نزهة إلى حديقة الحيوان! عندما كتبت مقالى الأخير الأسبوع الماضى «غدا.. كلنا أمريكيون» قبل مباراة الجزائر وأمريكا فى مونديال 2010، كتبته وفى نيتى مبدأ «أقول رأيى... وعلى الله أجرى».. فإذا بى من حجارة عباد الله أجرى..!! بمجرد نشر المقال كانت البداية عاصفة!.. حيث تعرض بريدى الإلكترونى لهجمة متوالية شديدة الضربات! لم يصدمنى ترتيب توالى ردود الأفعال.. لأننى أعلم أن من يغضبه كلامى، سيكون رد فعله من الناحية السيكولوجية أسرع وأعنف ممن سيعجبه الرأى وينوى الإشادة والتأييد. لذا كان نصيبى العاجل من الغاضبين المتعصبين من مصريين وجزائريين على حد سواء رسائل إلكترونية كلها مستوحاة من عالم الحيوان!.. مصريون رأوا فأرا ونعامة!.. وجزائريون رأو الذئب والكلب! البعض سب وهاجم بمجرد قراءة العنوان دون الالتفات إلى المضمون، وربما هى سمة هذه الأيام التى نغلب فيها الشكل على الجوهر، فنأخذ العنوان ونترك المضمون! أزعجتنى البداية، لكنها كما قلت لم تصدمنى.. ومع توالى وصول بقية الآراء الأخرى التى أخذت وقتها فى القراءة والتحليل بدأ الأمل يدب فى نفسى من جديد، فالجرح النازف يمكن أن يلتئم. رسالة من مواطن جزائرى اسمه بو والى محمد قال فيها: «سلام وتحية من أرض الجزائر الثائرة إلى أرض الكنانة، أرض العلم والحضارة الضاربة فى أعماق التاريخ، لشعب طيب نحبه رغم أنف الاستفزازيين والسابحين فى المياه العكرة.. الأوامر مقبولة ومطيعة، ورهن إشارة التنفيذ.. لكن الأحاسيس والشعور بمسئولية الانتماء الحضارى واللغوى والعقائدى خارج حدود أوامر الأمر الشمولى.. وحذار من أصحاب العمائم البيضاء والسوداء.. نبلهم ظاهر، وباطنهم من نار الجحيم.. عاشت الأمة المفككة الأوصال والقائمة على نيل الأوامر الفوقية ومنعدمة فيها الأوامر المستقيمة..!!» رسالة أخرى من الكاتبة الجزائرية جنات بومنجل قالت فيها: «قرأت مقالك العميق وشعرت بمرارة وحزن كبيرين.. كم أتمنى أن يقرأه كل الذين ارتكبوا جناية الفتنة بين البلدين.. أرجوك أرسل نسخة منه إلى عمرو أديب والغندور وشلبى ومصطفى عبده.. أرسله إلى نخبة المصفقين والمطبلين لكل تناحر وتقاتل وفرقة، حتى يشعروا بما نشعر نحن من أسف وألم.. أرسله إلى الذين ارتكبوا جرما فادحا من الطرفين حتى يروا أى ذنب اقترفت كلماتهم وتعليقاتهم ومقالاتهم وبرامجهم وآراؤهم. لله دركما يا مصر والجزائر». ومن مصر وصلتنى أيضا عشرات الرسائل التى أجمع أصحابها على ضرورة لم الشمل، وأنهم بالتأكيد مع الجزائر أمام أمريكا. فازت مصر بكأس أمم أفريقيا وفازت الجزائر بشرف المشاركة فى المونديال. أتصور أنه حان الآن أوان الهدنة.. هدنة تسمح للعقلاء فى الجانبين بالتحرك لتضميد جراح علاقة بلدين وشعبين، تساقط عليها ركام شغب المدرجات.. شغب جمهور درجة ثالثة!.. جمهور تخلى فيه سياسيون عن وقارهم وإعلاميون عن رسالتهم! نحن بشر حبانا الله بالعقل.. فلماذا لا يريد لنا البعض إلا أن نكون مخالب لكائنات حبيسة أقفاص الكراهية، تتوق للافتراس والانتقام؟! ستبقى الكتابة رسالة.. لا بد وأن تصل يوما لصاحبها.. بعيدا عن سرادق العزاء وولائم اللئام.. وعالم الحيوان!! [email protected]