أقر أنا المذكور أعلاه، أنني أتحمل مسؤولية رجوع الثورة إلى الخلف حتى كادت تصطدم بالحائط، بل وأتحمل مسؤولية فشلها إذا حدث وفشلت الثورة.. ألف بعد الشر عليها! ولكن مهلًا.. لا أدعي أنني أتحمل تلك المسؤولية الهائلة وحدي، سنتحملها أنا وزميلي في الدراسة الذي التقيت به في الميدان أثناء الثورة.. في الحقيقة أنا أكره استخدام مصطلح "أثناء الثورة"، فليس له سوى معنى واحد، وهو أن الثورة كانت.. ثم انتهت. في حين أنني مؤمن بحتمية استمرار الثورة، وإن استمرت بأشكال مختلفة وعلى أصعدة أخرى.. نرجع مرجوعنا.. سنتحمل المسؤولية أنا وزميلي في الدراسة الذي قابلته لأول مرة منذ سنوات، قبل التنحي بأيام. رأيته مستلقيًا على الأرض في أحد جنبات الميدان. فاجأني بشاله الفلسطيني وهيئته الرثة التي لم يبدو أنها تزعجه على الإطلاق. صارحته بأنني لم أتوقع أن أقابله في مثل تلك الظروف، فكان رده أنه لم يتوقع مقابلة أيٍ من أصدقاء الطفولة وزملاء الدراسة الذين يصطدم بهم أينما تجول في أرجاء الميدان. وقال إن هذا هو سر نجاح الثورة وجمالها. الكل استقيظ، الكل مهتم، الكل واعٍ لما يدور من حوله، الكل يقول كلمته.. أخيرًا! قابلته مرة أخرى منذ أسبوع يتسكع في أحد مقاهي وسط البلد، فسألته عن الثورة والنشاط والسياسة، في محاولة لكي أستمدّ منه القوة التي فقدتها، والتفاؤل الذي تاه مني في زحام ما بعد مبارك. فدار بيننا الحوار الآتي: - ايه أخبار السياسة على حسّك؟ - ورايا شغل يا عم، خلاص بقى! - طب مش هاتعمل أي حاجة؟ - بافكر أنضم للحزب بتاع دكتور عمرو حمزاوي، أو حملة البرادعي. - إمتى؟ - لما أفضى شوية، إن شاء الله. مهلًا.. فلي شريك آخر. في الواقع هم شركاء آخرون.. آلاف الشركاء.. بل مئات الآلاف. الثااااااااني: صديق قديم آخر، معروف بحماسه للنشاط السياسي، كانت قد باعدت بيننا الظروف. قابلته في الخامس والعشرين من يناير في أحد مداخل ميدان التحرير، وسط المسيرة القادمة من إمبابة. اقتحمنا الميدان سويًا، واستنشقنا نفس الغاز، وسالت دموعنا في نفس اللحظة. حملني على كتفيه لأرى مشهدًا مهيبًا، لآلاف من المتظاهرين. بالطبع كان المشهد مهيبًا في مصر ما قبل الثورة.. أما في زمن المليونيات، فلقد أصبحنا مثل أطفال البلاي ستيشن الذين فقدوا القدرة على الانبهار ب(توم أند جيري). رد صديقي على إحدى محاولاتي لإعادة شحن طاقتي الثورية قائلًا: زهقت! مش فاهم ايه اللي بيحصل وعايز أريَّح دماغي وأستريح شوية! الثاااالث: حكى لي بالأمس زميل يعمل مترجمًا أن بعض القنوات الإخبارية الأجنبية والصحفيين العالميين كانوا على اتصال دائم به لمعرفة رأيه في الثورة ولسماع صوت الثوار، أحيانًا كان يتلقى ثلاثة أو أربعة مكالمات من قنوات مختلفة في اليوم الواحد. الجميع يتسأل من هم الثوار المصريون؟ ما هي مطالب الثورة؟ ما هي مستجدات الثورة؟ وكانوا يستقبلون الاخبار بحفاوة بالغة، لدرجة أنه في أحد البرامج، تفاعل معه المذيع بشدة، وأخذ يصفق ويشيد بالثورة والثوار. انقطعت الاتصالات بعد التنحي وتحول الاهتمام الإعلامي إلى باقي الثورات العربية. ولكنه تلقى طلبًا من قناة إخبارية بالتعليق على خطبة الرئيس الأمريكي باراك أوباما وأصدائه في الشارع المصري. حاول صديقي التهرب منهم بكل الطرق والوسائل. إلا أنه أضطر أمام إصرار العاملين بالقناة إلى إجراء مكالمة معهم على الهواء مباشرةً. وأثناء الحديث اكتشف سر تهربه. لم يكن يعرف سوى القليل جدًا عن تطورات الوضع في مصر والعالم العربي، بل لم يكن مهتمًا. قام بالتعليق على خطبة أوباما دون أن يشاهدها، بعد أن اكتفى بقراءة عناوين الجرائد وتكوين فكرة مبتسرة وناقصة عن موضوع الخطبة. لاح في صوته عدم اكتراث وانهزامية كان خالها قد ذهبت بلا عودة، وإن لم يخلُ حديثه من شعارات ثورية، بدت جوفاء خالية من كل معنى. ولم يتلقَّ رسالة الشكر المعهودة من العاملين بالقناة بعد البرنامج. الأخييير: كل الشباب الذين اختفوا من الميدان، ولا أقصد ميدان التحرير فقط، بل كل الميادين التي كان من المفترض أن نخوضها منذ بداية الثورة; ميدان الإصلاح، ميدان الوعي السياسي، ميدان الوحدة الوطنية، ميدان التغيير.. الحرية.. العدالة الاجتماعية! أي نعم.. سنتحمل نحن مسؤولية الإخفاق، وكل العواقب.. بصمتنا وعودتنا إلى قوقعة العالم الافتراضي واستسلامنا لبوادر الفشل والطائفية، نكون قد أسدينا أكبر خدمة إلى كل من يعمل على أن تظل مصر مكانها. يا شباب.. لابد أن نعود إلى كل الميادين التي ذكرتها، ثائرين.. مصلحين.. مصريين.