نجحت ثورة 25 يناير وبهرت العالم أجمع، لكنها لم تنتصر بعد. نعم، مازال أمامنا وقت طويل حتى تحقق الثورة كل أهدافها وعندها يكون النصر.. من أعظم تجليات هذه الثورة وحدة المصريين جميعا فى ميدان التحرير وفى غيره من ميادين وشوارع مصر تكاتف المسيحيون مع إخوتهم المسلمين وصبوا على أياديهم الماء للوضوء وحموا ظهورهم وهم يؤدون الصلاة، وأحاط المسلمون بإخوتهم وهم يقيمون القداس فى ميدان التحرير.. وفى مدينة دمنهور كنا نسير فى مظاهرة كبيرة وعندما مررنا على الكنيسة تعالت الهتافات كان المتظاهرون يوجهون التحية للكنيسة فى هتافات جميلة معبرة. ماذا جرى يا مصر؟! هذه ثورتكم يتربص بها أعداء الداخل والخارج فلماذا تعجز الثورة عن حماية نفسها؟ لماذا يفشل المجتمع فى تحصين نفسه ضد أسباب الفتنة؟.. نجونا من «صول» وكنا نعرف أن الأسباب مازالت قائمة وكامنة! هذا الاكتظاظ السكانى فى الأحياء المكدسة بالمساكن والبشر المحرومين من الخدمات فى محيط من التلوث هنا يتفشى الجهل والفقر والمرض. إنها أعظم مفارخ للصراعات الاجتماعية التى تحولها الأصابع السوداء ببراعة فائقة إلى صراع طائفى. لماذا نسكت حتى يتعرض الوطن للخطر الداهم ويطلع علينا من يسكب البنزين على النار فنطالع صحف الإعلام التى تلوح بالحرب الأهلية وهو حدس غير صحيح وتحذير فى غير محله ووقته، إن أخطر ما يواجه مصر الآن هو هذه الطائفية المقيتة المدبرة بفعل الفاعلين ولكنها لن تكون أبدا حربا أهلية. إنه خطر يهدد مستقبل مصر ويلحق بمجتمعها دماراً هائلاً لا تقوى الأجيال القادمة على تحمله دماراً يمكن منها العدو الصهيونى ويجعلها خاضعة ذليلة بأكثر مما كانت فى عهدها البائد.. من الذى يتحمل آثار هذه الهزيمة المحتملة؟.. أليست مصر كلها بمسيحييها ومسلميها؟ ما إن تنجو البلاد من فتنة فى مكان حتى تندلع فتنة أخرى فى مكان آخر ماذا إذن؟ إنها المؤامرة. هذه الأحداث المؤسفة المتلاحقة تجعلنا نعود إلى ذكر المسلمات نجترها ونكررها: مصر فى تاريخها الحديث لم تعرف إلا التسامح والود والحب والعيش المشترك بين الوطن الواحد. أبناء جيلى يشهدون على ما كان فى مدارسنا من زمالة وصداقة بين تلاميذ المدارس مسيحيين ومسلمين. كان كثير من أساتذتنا مسيحيين تلقينا على أيديهم العلم والمعرفة وهم متجردون إلا من العلم والإيمان بالوطن.. هذا هو القرآن الكريم وفيه من الآيات ما يحض على التسامح.. إن إيمان المسلم لا يكتمل إلا بإيمانه بكل ما أنزل من كتب سماوية والقرآن الكريم ملىء بالآيات التى تبجل المسيح عليه السلام والسيدة مريم.. إننا نواجه مشهداً بائساً محزناً بحق! شعب هب وانتفض وقام بثورة عظيمة لكنها بلا قيادة.. طليعة الثورة متفرقة وغير موحدة! جماعات وفصائل وحركات وأحزاب عجوز وعاجزة، وأحزاب مازالت تحاول أن تخرج من الشرنقة وتنظيم واحد له جذوره وقواعده وبرنامجه (الإخوان المسلمون) وجماعات متعددة ومنتشرة كانت كامنة ثم ظهرت على الساحة ولا نعرف لها برنامجاً سياسياً حتى الآن (السلفيون) أما الأقباط فغالبيتهم ليس لهم ملاذ إلا الكنيسة وحتى الآن لم ينتظموا فى أحزاب. أما الجماهير التى فجرت الثورة وسالت دماؤها فى ربوع البلاد يعتدى عليها الآن وتروع وتهدد فى حياتها وممتلكاتها الخاصة والعامة بأعمال الإجرام المنظم وتهاجم أقسام الشرطة بكل الأسلحة وتقتحم المستشفيات والمرافق العامة، وتهدد دور العبادة ويقطع الطريق العام.. وإذا عاد المواطن إلى بيته آمنا من شر الطريق ففى كل مساء يقع فريسة لإعلام متهافت أو مضلل يسعى للإثارة على حساب الحقيقة.. إعلام يضخم الصغير من الأحداث ويتصيد العابر من الأمور ليسلط عليه الضوء.. فى هذا الخضم الهائل من الكلام لا تتضح فكرة ولا يصل رأى إلا بالإصرار والتكرار والصوت العالى، وعاد الجهلاء والأدعياء والمهيجون لاعتلاء المنابر، بينما كثير من الذين خدموا النظام السابق مازالوا فى مواقعهم وكثير من عناصر أمن الدولة يعملون فى الظلام وبات الشارع مجالاً خصباً للشائعات المغرضة «حادثة صول أشعلتها الشائعة» وحادثة إمبابة «لعب فيها التحريض والشائعة الدور الرئيسى». هل هذه بيئة صالحة لإجراء الانتخابات النيابية القادمة ثم بناء مصر الديمقراطية؟! يا حكماء مصر، أيها العقل السياسى المصرى، فلنبحث عن جذور الفتنة المشؤومة فى الخانكة وفى الزاوية الحمراء ولتعترفوا بخطيئة أنور السادات فهو الذى زرع بذور الفتنة وسقاها حين نافق التيار الإسلامى ليضرب به اليسار فانطلقت جماعات بعينها أغلبها عائد من السعودية محملاً بتوجهات تخالف ما تربينا عليه من تعاليم الإسلام الحنيف الذى عاشت مصر قرونا فى كنفه. «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا» قرآن كريم. ولنرجع إلى تقرير الدكتور العطيفى فالأسباب مازالت قائمة بل استفحلت.. راحت هيبة الدولة وغاب القانون، والمجلس العسكرى ينأى بنفسه ويبتعد ويتجنب الصدام بالأهالى، وكثيرا ما يتباطأ فى اتخاذ القرار، تقاعست الشرطة وأصبحت غير قادرة على أداء مهامها.. إذا كان المجلس العسكرى جادا فى حماية البلاد من الفوضى والانزلاق إلى الهاوية فيجب أن يعمل على تنفيذ القانون بكل قوة وحزم وتطبيقه على الكبير والصغير بدءاً من أصغر مخالفة على الطريق العام مروراً بالتعدى على أراضى الدولة والأرض الزراعية وانتهاءً بأعمال البلطجة وتهديد دور العبادة وحرق الكنائس، فالقانون لا يتجزأ والقانون ليس انتقائيا. هذا الخطر الذى يهدد الثورة وهذا المشهد البائس دفعانى إلى الثورة الفرنسية، فالثورات تتشابه -تختلف الأرض وتختلف الشعوب- لكنها تتشابه فى الظروف والأحداث والمواقف لأن الإنسان هو الإنسان. كانت فرنسا الثورة مهددة بالعدو الأوروبى ومصر الثورة اليوم مهددة بالعدو الإسرائيلى. «روبسبيير» الذى اعتبر سفاحا، كانوا يطلقون عليه أيضا المثالى والنزيه والعنيف وهو الذى قال: «يجب أن يموت الملك ليعيش الوطن»، وكان أمينا لما عرف بلجنة السلامة العامة التى أصدرت قانوناً يحكم بالإعدام على كل من يثبت عليه: 1- ترويج الشائعات الكاذبة. 2- سب وقذف الوطنية. 3- انتهاك الأخلاقيات. 4- إفساد الضمير العام. 5- تعكير وتكدير البراءة والطهارة الثورية. 6- إعاقة طاقة الحكومة. إذا كان ترويج الشائعات الكاذبة إبان الثورة الفرنسية وفى القرن الثامن عشر باللسان فقط فما بالنا اليوم؟. ملحوظة: هذا المقال كنت قد بدأت فى كتابته يوم الثلاثاء قبل الماضى وانتهيت منه مساء الخميس 12/5، لأننى وجدت أن هناك شيئا من توارد الخواطر فى هذا المقال مع ما يطرحه الأستاذ محمد حسنين هيكل فى جريدة الأهرام. [email protected]