حكاية: الجريدة.. والبنطلون!!

كان من عادة الصحف القديمة أن يكتب رئيس التحرير مقالاً على عمودين أو ثلاثة فى صدر الصفحة الأولى كل يوم.. وكان طبعاً داوود بركات باشا، الأديب الكبير، رئيس تحرير الأهرام، حريصاً على هذا المقال اليومى.. ولما تولى أنطون باشا الجميل رئاسة تحرير الأهرام من بعده- وهو صحفى حتى النخاع أطلق مقولته الخالدة: الناس تحب تقرأ الأخبار أولاً ثم تقرأ بعد ذلك التعليق عليها..
مقالات متعلقة
* كل سنة وأنتم طيبون
* إحنا مش فى البلد!
* الدواء وساندويتش الفول.. أيهما أولى بالتسعيرة الجبرية؟!
وبالفعل أصبحت صفحة الأهرام الأولى كلها أخبار.. حتى البرواز فى الصفحة الأولى، الذى كان بداخله مقال داوود باشا، أبقاه أنطون باشا، ولكن ملأه بالأخبار الشخصية والحكايات الخاصة للطبقات العليا.. فقد كان أنطون باشا صديقاً حميماً لكل هؤلاء حتى الملك فاروق نفسه وحاشيته.. إلى أن جاء أحمد الصاوى محمد، وأعلن أن الناس لا تحب اللت والعجن.. عمود بل نصف عمود يكفى، وكان عنوان كلمته (ما قل ودل) اسما على مسمى حقيقى.. وهنا تمت ولادة (الأعمدة الصحفية).. وبعد فترة أرسى أحمد الصاوى محمد تقليداً آخر يعبر عن أهمية العمود اليومى، واعتبره هو (الرباط) بين القارئ والجريدة.. الأخبار فى الصحف والإذاعة، ولكن الرأى لا وجود له إلا فى هذه الأعمدة، إذن لابد منها كل يوم.. ثم حدث ما لم يكن فى الحسبان.. مرض واشتد المرض بالصحفى الكبير، وهذه حكاية مشهورة، أصر الصاوى على أن يكتب كل يوم.. كيف؟؟ وكان من آراء الصاوى أن المعاناة فى كتابة العمود هى (فكرة العمود)، فالعمود عماده فكرة جديدة، والمعاناة هى فى البحث عن فكرة جديدة كل يوم، ولذلك سَمى على أمين عموده (فكرة).
لم يكن الصاوى فى مرضه الأخير يستطيع أن يجد كل يوم فكرة، ثم أخيرا وجد فكرة!! لا فكرة يكتبها بل فكرة شخصية له تجعله يكتب كل يوم دون أن يكتب!! كيف؟؟ كل يوم كان يتلقى الصاوى خطابات تحوى آراء تستحق النشر، وأحيانا كثيرة، هذه الآراء كتبها أصحاب فكر وعلم لهم أسماء مشهورة.. وقد كان.. ظل الصاوى يكتب لمدة أكثر من عام كل صباح خطاباً من قارئ وهذا سر قد لا يعلمه كثيرون.
■ ■ ■ ■
المرحوم على أمين- وهو مع المرحوم محمود عبدالمنعم مراد- فى كل الاستفتاءات خير من كتب عمودا فى تاريخ الصحافة المصرية..
أعود فأقول إن على أمين له رأى طريف فى حكاية الأعمدة الصحفية، كان رحمه الله أشد المؤيدين لآراء أحمد الصاوى محمد.. انتهى زمن المقال الطويل على ثلاثة أعمدة وأكثر!! نصف عمود كافٍ جداً لكتابة فكرة جديدة، واختفاء أى عمود خطأ كبير.. والجديد الذى قاله على أمين أن القارئ من حقه أن يرفع قضية على الجريدة التى خلت من العمود اليومى، باعتبار أن شراء الجريدة مثل شراء أى شىء آخر.. عندما يشترى القارئ جريدة تنقصها الأعمدة التى يقرأها يكون مثل المشترى الذى اشترى بدلة بلا بنطلون مثلاً.. ويجوز له أن يرفع قضية.. والقارئ أيضاً من حقه أن يرفع قضية ويطالب بالبنطلون (أقصد العمود)!! وإلا يسترد ما دفعه!!
■ ■ ■ ■
وهنا ظهر سؤال:
هل من حق رئيس التحرير حجب عمود يحمل رأياً يخالف رأيه واتجاه الجريدة؟؟
طبعاً من حقه.. ولكن خير له وللجريدة أن يكتب رئيس التحرير عموداً آخر بجانب هذا العمود يظهر فيه وجهة نظره.. ويا ريت يرد عليه الكاتب فى اليوم التالى.. وهنا تكسب الجريدة الكثير باعتبارها تقدس حرية الصحافة.. وهناك أمثلة قديمة رائعة لا حصر لها.. أكتب هذا بمناسبة زيادة حكاية حجب بعض الأعمدة هذه الأيام.. ولن أزيد!
اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة