نوبة رجوع.. نوبة صحيان

أتعامل مع الموسيقات العسكرية بكثير جدا من الاحترام.. لكن تبقى لموسيقى نوبة رجوع مكانة خاصة، حيث إنها الموسيقى التى يعزفها الجيش المصرى عند وداع شهدائه.. هى الموسيقى التى شهدت رجوع شهداء مصر ضحايا الإرهاب والغدر فى سيناء منذ ثلاثة أيام.. هى أيضا الموسيقى التى لا أتمنى سماعها كثيرا لأن عزفها فى كل مرة يعنى رجوع عسكرى أو ضابط بكل ما يخلفه ذلك من آلام وجروح لن تداويها مطلقاً أى مكافآت ونياشين وعبارات مواساة.. فالموت هو منتهى الحزن، وقسوة الغياب الذى لا ينتهى، وعذاب وحرمان ووجع يكسر القلب ويترك فيه شروخا لا تصلحها الأيام..
مقالات متعلقة
* الزمالك وحديث التوك توك
* أمريكانى من طنطا
* اعتذار لعلى أبوالقاسم والجمباز
أما الموسيقى الأخرى التى أظننا نحتاجها كثيرا هذه الأيام فهى نوبة الصحيان.. وإذا كان جيشنا يحتاج كل نهار لهذه الموسيقى من أجل الاستيقاظ وبدء يوم جديد.. فإننا كلنا نحتاج الآن لنوبة صحيان.. نحتاج أن نستيقظ ونستعيد عقولنا وضمائرنا ومشاعرنا..
فهؤلاء الذين تسابقوا اليومين الماضيين لنشر صور شهدائنا الغارقين فى دمائهم فى إطار التعبير عن حزنهم وغضبهم أو للهجوم على آخرين من أعداء الوطن.. لم يتوقفوا لحظة واحدة لينتبهوا إلى أن هذا السلوك الفظ والقبيح ليس إنسانيا ولا مقبولا أيضا.. وهؤلاء الذين اختصروا دماء شهدائنا واعتبروها مجرد فرصة للهجوم على أى شخص والرد على أى تعليقات قبيحة وسافلة ورخيصة.. لم ينتبهوا إلى أنهم قرروا أن تكون وتبقى مساحة الشتيمة والسخرية أضعاف مساحة الحزن والأسى أو حتى التأمل والتفكير.. وإذا كنت أكتب هذا قبل بدء مباراة الزمالك وصن داونز اليوم فى النهائى الأفريقى، وبعدها مباراة الأهلى والداخلية فى الدورى المصرى.. فأنا أعرف من الآن الجدل الذى سيبدأ غدا.. فإن فاز الزمالك أو الأهلى واحتفل اللاعبون والجماهير بهدف أو فوز.. فسنجد الذين يهاجمون هذه الفرحة ويعتبرونها إهداراً لحقوق شهدائنا فى سيناء..
ولن يكون هجوما حقيقيا أو صادقا سببه الحزن واحترام الموت والشهادة.. إنما هو فقط مجرد فرصة للاستعراض ومواصلة تجارة الموت والحزن والألم.. وأنا واثق من صدق الذين قد يكونون مارسوا الفرحة أمس مع كرة القدم ومن صدقهم أيضا وهم يحزنون على شهداء مصر..
وليس فى ذلك أى تناقض.. فلا الحياة تعرف الحزن الدائم أو الفرح الدائم.. وأنا هنا أتحدث عن المجموع والإحساس العام.. فاصحاب الأمر فقط هم الذين سيدوم حزنهم طيلة حياتهم.. وسيتجاهل هذه الحقيقة من تستهويه تجارة الموت بين الحين والآخر.. تماما مثل هؤلاء الذين يستخرجون من دفاتر الذكريات حكايات شهداء الأهلى فى استاد بورسعيد، أو شهداء الزمالك فى استاد الدفاع الجوى، ويستعرضون أحزانهم ومواجعهم ويريدون ثمنها، رغم أن هؤلاء أنفسهم يحتفلون طول الوقت بانتصارات الأهلى والزمالك..
ولهذا نحتاج لنوبة صحيان.. ليس من أجل هذا فقط.. إنما نحتاجها من أجل أمور كثيرة لانزال نمارسها دون وعى أو تفكير.. نحتاج أن نصحو لنتمرد على كل قيودنا القديمة ومن تاجروا طول الوقت بدمائنا وشهدائنا وحياتنا وبلادنا.
شاهد أخبار الدوريات في يوم .. اشترك الآن