عندما توجه الشاب النحيل المحبط محمد بوعزيزي نهار الجمعة يوم السابع عشر من ديسمبر 2010 الى مبنى بلدية سيدي بوزيدالتونسية بغرض اضرام النار في جسده داخل ساحة المبني احتجاجا على تصرفات رجال البلدية تجاهه واغتصابهم عربة الخضار خاصته التي كان يجول بها في الشوارع يقتات رزقه وصفع الشرطية التونسية الحسناء له أمام الجميع ، وبعد ان انسدت أمامه وهو الشاب المتخرج من الجامعة القنوات الموصلة للحصول على وظيفة في شرق البلاد وعرضها ، لم يكن يتوقع انه يصنع مجدا من نوع خاص . وان تلك النيران التي التهمت معظم اجزاء جسده صارت الهاما حقيقيا للملايين في الشوارع العربية تحرضهم على كسر الاحباط . وربما كانت جثة البوعزيزي المحترقة بمثابة تلك القشة التي قصمت ظهر البعير العربي العجوز فاضطرته ان " ينخ " جاثيا على ركبتيه من فرط تلك الاحمال القاسية من الاستبداد والفساد والظلم والقمع . والشبان التوانسة الذين تواعدوا عبر مواقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك والتويتر للتدافع في شوارع تونس الخضراء استلهموا " المحرقة البوعزيزية " في الدفع بصدورهم العارية في مواجهة مؤسسة بوليسية قمعية شديدة البأس يطلبون اصلاحا سياسيا وفرصة عمل لكل شاب . بيد إن الغرور الديكتاتوري المتباهي دائما بقوة بأس مؤسساته الامنية تعامى عن رؤية جوهر هؤلاء الشبان الجدد . والواقع الجديد أيضا . واصدر اوامرا تقليدية بالقمع الذي يصل لدرجة القتل بدم بارد للتخلص من صداع الاحتجاجات مبكرا . لكن الذي حدث إن جريان نهر الدم في شوارع العاصمة التونسية استثار المزيد من الغضب والحقد . واستثار أيضا عشرات الآلاف من التوانسة المقموعين الذين دأبوا على الاختباء في بيوتهم خشية قمع السلطة . ولم يكن ذلك كل شيء . إذ تيقن الثائرون إن دماء الشهداء التي تسيل في الشوارع أصبحت بين ليلة وضحاها وقودا متدفقا ودافعا للمزيد من الغضب والثورة. كما أدركوا بقوتهم الجمعية إن ذلك النظام بكافة مؤسساته الامنية المخيفة مجرد هياكل كارتونية نخرها سوس الفساد والعفن . وبالفعل لم يتوقفوا حتى هرب رأس النظام متسترا عن كل العيون صبيحة الجمعة الرابع عشر من يناير 2011 . ويبدو ان مشهد سقوط ديكتاتور جثى فوق رقبة شعبه أكثر من ثلاثة وعشرون عاما مستعينا فقط بمؤسسات امنية قوية تدعم بقاؤه ، ولم يفكر في انشاء مؤسسات تقوم على اسس ديمقراطية تمنح الشعب حريته وكرامته وتسمح بشفافية تقي البلاد من شر الفساد والاستبداد . يبدو ان مشهد السقوط ذلك كان بمثابة الالهام الذي دفع الشباب العربي الجديد الى الخروج في شوارع القاهرة وكافة المدن المصرية تقريبا نهار الخامس والعشرين من يناير . وايضا حدث نفس الشيئ في شوارع الجزائر وعدن وبغداد وميدان اللؤلؤة بالبحرين وعمان ، وبنغازي وطرابلس وكافة المدن الليبية . كما ان هناك مواعدات للشباب الجدد بالثورة في المملكة العربية السعودية . الامر الذي يشي بامكانية تغير المشهد العربي بانظمته التقليدية خلال الخمس سنوات القادمة . ويظل الزلزال المصري الكبير الذي اقتلع أكبر مؤسسة ديكتاتورية مستبدة بالمنطقة العربية في ذاكرة التاريخ المعاصر للابد . ويظل ميدان التحرير وسط القاهرة المكان الأسطورة الساحر الذي تلاقت عنده ، وانتقلت منه أهم الثورات الشعبية في التاريخ المصري القديم والحديث . فقد خرجت الملايين بزخم مدهش في كافة المدن المصرية. وخاضوا مواجهات ضارية مع قوى أمنية شديدة البأس والتهور وقوى أخرى شرسة مستأجرة في الغالب من أعوان النظام في محاولات مستميتة لوقف المد الثوري الجارف . لكن الذي حدث شيئ غريب . ان الشباب سواء في التحرير أو كافة المدن المصرية الأخرى كانوا متيقنون من قدرتهم على المواجهة . وكانوا متيقنون ايضا من إنهم سينتصرون ويحققون مطلبهم الرئيسي وهو وضع حد لرأس النظام الآن . ويبدو ان ذلك اليقين (الجمعي المليوني المدهش) استلهموه من فرار ديكتاتور تونس ومن دماء زملائهم الشهداء التي انهمرت حوالبهم بوحشية مفرطة وحقد تجاوز درجة الغليان على يد أفرادا من المؤسسة الأمنية الفاسدة وأيضا المجرمين المستأجرين من قبل أعوان النظام . والمشهد العربي الآن يشي بالكثير من الحقائق ينبغي ان يتنبه لها الآن السادة رؤس الانظمة الحالية والا فالعاصفة تطول من تبقى اولا: إن تلك الأجيال من الشباب الذي يثور الان في المدن العربية لم يعد يتقبل فكرة الرئاسة أو الملكية المستبدة الابدية والتي تتجمع في يدها كافة سلطات الدولة ومن ثم فان مفهوم شيخ القبيلة أو رب العائلة وكبيرها أو الأب أو الزعيم أو القائد الملهم . كل تلك المفاهيم اصبحت من الماضي وولى زمانها . ولم تعد جاذبة سوى للشيوخ والعجائز الذين يمضون أمسياتهم في الثرثرة لا أكثر . ثانيا: ان الملك أو الرئيس أو أي مسئول في الدولة لابد وان يكون خادما للجماهير . وليس العكس مثلما كان يحدث في الماضي حيث تصبح الجماهير بمختلف قطاعاتها مجرد خدم لدى السادة الحكام واصحاب النفوذ . الامر الذي يترتب عليه فقدان الجاذبية والبريق والتكالب على كراسي السلطة في ظل وجود محاسبة ومقارعة ورقابة صارمة ومؤسسات قوية مستقلة . ويصبح كرسي السلطة غير قابل للاسترخاء أو الإطالة . ثالثا:ان الاجيال الجديدة من الشباب ترغب بشدة في المشاركة الفعالة في مصائر أوطانها ، ولن تتنازل أو تقبل بعد الآن سياسات الالغاء و التهميش و الالهاء و التحقير التي كانت العناوين الرئيسية لحقب الاستبداد والديكتاتورية . رابعا: لم تعد مفاهيم مثل الثقافة الخاصة ، والقيم الخاصة ، وخصوصية المجتمعات العربية صالحة للتداول في ظل سياسات العولمة والانفتاح خاصة ما يتعلق منها بالدولة الديمقراطية الحديثة التي تقوم على مؤسسات منتخبة قوية . ورئيس أو حاكم يحترم القانون والدستور و سلطة الشعب . والاجيال الجديدة من الشباب لن تحفل بعد اليوم بأكاذيب الحكام حول خصوصية الثقافة والتقاليد والدين . أن القيم النبيلة التي من أجلها يثور الشباب الجديد في المدن العربية جديرة بالاحترام والتقدير والمساندة خاصة من شعوب سبقتنا في المضمار منذ أزمان طويلة . ان الشباب الذي خرج، وما يزال متواجد في شوارع العواصم العربية يعلن بوضوح عن رغبته في الحرية والعدالة والعيش بكرامة والمشاركة في بناء الوطن . وتلك قيم جديرة بالموت دونها. د. احمد الباسوسي