(1) قال الملك تكلم كيف شئت: فإني مصغٍ إليك، ومقبل عليك، وسامع منك، حتى أنتهي مما عندك إلى آخره، وأجازيك على ذلك بما أنت أهله. (2) قال الفيلسوف: السكوت عند الملوك أحسن من الهذر الذي لا يرجع منه نفع، وأفضل ما استظل به الإنسان لسانه، غير أن الملك، أطال الله مدته، أفسح لي في الكلام وأوسع لي فيه؛ فكان أولى ما أبدأ به من الأمور التي هي غرضي أن اختصه بالفائدة قبلي، على أن العقبى والنفع العمومي هي ما أقصد في كلامي له، أما نفعه الشخصي وشرفه، فهو راجع إليه، لذلك فإذا نصحت أكون أنا قد قضيت فرضاً، ومن هنا وجب عليَّ أقول ما سوف أقول: (3) أيها الملك إنك في منازل آبائك وأجدادك من الجبابرة الذين أسسوا الملك قبلك، وشيدوه دونك، وبنوا القلاع والحصون، ومهدوا البلاد، وقادوا الجيوش، وجهزوا العدة، وطالت لهم المدة، واستكثروا من السلاح طلباً للفلاح، وعاشوا الدهور، في الغبطة والسرور، فلم يمنعهم ذلك من اكتساب جميل الذكر، ولا قطعهم عن اغتنام الشكر، ولا استعمال الإحسان إلى من خولوه، والإرفاق بمن ولوه، وحسن السيرة فيما تقلدوه، مع عِظَم ما كانوا فيه من غرة الملك، وسكرة الاقتدار، وإنك أيها الملك السعيد جده، الطالع كوكب سعده، قد ورثت أرضهم وديارهم وجنودهم وأموالهم ومنازلهم، فلم تقم في ذلك بحق مايجب عليك، بل طغيت وبغيت وعتوت وعلوت على الرعية، وأسأت السيرة، وعظمت منك البلية، وكان الأولى والأشبه بك أن تسلك طريق المحاسن، وتقلع عما "عاره" لازمٌ لك، و"شينه" واقع بك.. تحسن النظر برعيتك، وتسن لهم سنن الخير، فيكون ذلك أبقى على السلامة وأدوم على الاستقامة .فإن الجاهل المغتر من استعمل في أموره البطر، والأمنية، والحازم اللبيب من ساس الملك بالرفق، فانظر أيها الملك ما ألقيت إليك، ولا يثقلن ذلك عليك، وأنا لم أتكلم بهذا ابتغاء عرض تجازيني به، ولا التماس معروفٍ تكافئني عليه؛ لكني أتيتك ناصحا ً مشفقا ً عليك. (4) فلما فرغ الفيلسوف من مقالته، وقضى مناصحته، أوغر صدر الملك فأغلظ له في الجواب استصغاراً لأمره؛ وقال: لقد تكلمت بكلامٍ ما كنت أظن أحدا ً من أهل مملكتي يستقبلني بمثله ، ولا يقدم على ما أقدمت عليه، فكيف جرؤت على ذلك مع صغر شأنك، وضعف منتك، وعجز قوتك؟.. لقد جاوزت حدك، وما أجد شيئاً في تأديبك وتأديب غيرك أبلغ من التنكيل بك، فذلك عبرةٌ وموعظة. (5) قالت العلماء: أربعة ٌ لا ينبغي أن تكون في الملوك: 1- الغضب.. فإنه أجد الأشياء مقتاً. 2- البخل.. فإن صاحبه ليس بمعذور مع ذات يده، 3- الكذب.. فإنه ليس لأحدٍ أن يجاوره. 4- العنف في المحاورة فإنه يورث الفرقة والكراهية (6) عاد الملك ليمنح الفيلسوف فرصة العدول عما قال، وطلب منه أن يتكلم مرة أخرى فقال الفيلسوف: إني وجدت الأمور التي تميز بها الإنسان بين سائر الحيوانات أربعة أشياء، هي كل ما في العالم: (الحكمة / العفة / العقل والعدل / العلم والأدب)، علماً بأن "الروية" داخلة ٌ في باب الحكمة، و"الحلم والصبر والوقار" داخلةٌ في باب العقل، و"الحياء والكرم والصيانة والأنفة" داخلةٌ في باب العفة، و"الصدق والإحسان والمتابعة وحسن الخلق" داخلةٌ في باب العدل. وهذه هي المحاسن، وأضدادها هي المساوئ ، فمتى كملت هذه في واحدٍ لم تخرجه زيادة النعمة إلى سوء الحظ من دنياه ولا إلى نقصٍ في عقباه، و لميتأسف على ما لم يعن التوفيق ببقائه، ولم يُحزنهما تجري به المقادير في ملكه، ولم يفزعه مكروهٍ، فالحكمة كنزٌ لا يفنى على إنفاقٍ، وذخيرة لا يضرب لها بالإملاق، وحلة لا تنتهي جدتها، ولذة ٌ لا تنصرم مدتها. ................................................................................................................................... * مقتطفات بدون تصرف من حوارية رمزية بين بيدبا الفيلسوف، ودبشليم ملك الهند في كتاب "كليلة ودمنة" جمال الجمل [email protected] مقالات متعلقة * المستظرفون في الأرض * أحفاد الزعماء.. لماذا كفروا بالسياسة؟ * درس العراق اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة