أضع مضمون هذا المقال أمام القراء عموماً، وأمام أنصار التيار الدينى من إخوان وسلفيين على نحو خاص، حرصاً على فتح قنوات التفاهم بين التيارات المختلفة التى شاركت جميعاً فى الثورة. لقد استمعت مباشرة إلى مشاعر قلق غامر من بعض الثوار، الذين أشعلوا شرارة الثورة، سواء من طلابى فى الجامعة أو أصدقائى، وكذلك من جمهور الأساتذة والطلاب، الذين حضروا الندوة، التى شرفنا فيها الدكتور محمد أبوالغار فى آداب عين شمس، أحد الآباء الروحيين للثورة الأسبوع الماضى. قبل أن أحدد أسباب القلق من سلوك التيار الدينى، أود أن أتوجه بالتهنئة الثانية للصديق المناضل الدكتور عصام العريان، الإخوانى العريق، وهى تأتى بعد التهنئة الأولى بست سنوات، كما سيظهر للقراء فى نهاية المقال. موضوع الابتهاج والتهنئة هو إطلاق سراح العريان وزملائه وحصولهم على الحرية بشكل كامل ونهائى، بعد نجاح الثورة وسقوط أركان نظام الاستبداد والفساد. إننى أتمنى أن تكون حرية الإخوان مدعاة لاحترام حريات الآخرين، والتعامل مع شركاء الثورة والوطن تعاملاً يليق بنموذج الدولة الديمقراطية. باختصار الناس الذين أطلقوا الثورة وهم يحلمون بالديمقراطية والمساواة بين المواطنين، وبإطلاق حريات الفكر والتعبير والعمل المبدع، أصبحوا يخشون من احتمال سيطرة التيار الدينى على الحياة بمساعدة الجيش. لقد أراحنى أن استمعت إلى المتحدث باسم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو يقول: نحن لسنا إخوانجية أو سلفيين، ولا مصلحة لنا فى الانحياز لمعسكر فكرى على آخر. وبقى أننى قلت لطلابى وأصدقائى: علينا ألا نقع فى حالة عدائية، بسبب التصرفات العنيفة وغير الديمقراطية، التى شهدناها يوم الاستفتاء باستخدام الدين للتأثير على البسطاء، أو بعد ذلك فى قطع أذن أحد المواطنين، قلت نحن لسنا فى معركة مع التيار الدينى، فلقد حاربنا من أجل حريته وإدماجه فى الحياة السياسية، ولنا فيه أصدقاء عقلاء، يمكن أن نفتح معهم الحوار، لكى نضمن ألا تقع مصر فى شكل آخر من الاستبداد وتضطر إلى الثورة من جديد. إننى أطالب الأكاديميين من الإخوان والسلفيين بأن يتدخلوا لبناء الجسور بين التيارين الدينى والديمقراطى، ضماناً لنجاح الثورة ووحدة صفوفها. لقد كرر الثوار الشكاوى، التى أصبح الجميع يعرفونها عن العنف واستخدام ستار الدين لأغراض سياسية من جانب الإخوان والسلفيين، فوعدتهم بإطلاق دعوة للإخوان، للتحاور مع التيار الديمقراطى، الذى قاد الثورة فاعترض البعض قائلين: إن التيار الدينى يؤمن بالعنف، ولديه ظن بأنه الممثل الوحيد للسماء، وبالتالى فإن الحوار معه لن ينتج أى تفاهمات ، خاصة فى ظل حالة الغطرسة الناتجة عن إحساس هذا التيار بأنه مقرب من المجلس الأعلى للقوات المسلحة. أقلقنى هذا الموقف من الشباب الديمقراطى، فقلت: علينا أن نعترف بأن ظاهرة التطرف موجودة لدى المعسكرين الدينى والديمقراطى على حد سواء، وهى مسألة خطرة على مستقبل مصر، ذلك أن المتطرفين على الجانبين يتناسون أخطاءهم الذاتية، ويركزون على أخطاء الطرف الآخر، لدرجة نزع الصفات الإنسانية عنه وتصويره كشيطان، وهو أمر يفتح الباب للكراهية والعنف المتبادل. كان واجباً أن أكرر على أصدقائى ما سبق أن كتبته هنا فى «المصرى اليوم» مراراً بين 2004 و2007 عن ضرورة الاعتراف بالتيار الدينى، وقبول حركة الإخوان كجزء من نسيج المجتمع السياسى وتشجيعها على الاندماج. لقد ظللت أنبه فى المقالات إلى أن أحد أسباب قوة إسرائيل وتماسكها الداخلى، هو قدرتها على خلق بوتقة للتفاعل الديمقراطى السلمى بين الفرق الصهيونية والمدارس اليهودية، رغم وجود خلافات عميقة بين التيارين الديمقراطى والدينى. لقد تحقق لهم هذا بجهود المفكرين الحريصين على وحدة الجماعة. فى البداية عندما أطلق «تيودور هرتزل» الحركة الصهيونية عام 1897 داعياً إلى إقامة وطن يهودى فى فلسطين، ثار ضده أنصار الشريعة اليهودية والتيار الدينى، واتهموه هو والحركة الصهيونية بالكفر والهرطقة والخروج على الدين والاعتراض على مشيئة الرب، ذلك أن العقيدة التى كانت مسيطرة على هذا التيار، وعلى جموع اليهود فى الجيتو وسائر الأحياء الخاصة لليهود فى أوروبا الشرقية، هى أن السماء سترسل فى الوقت الذى يختاره الرب مسيحاً يهودياً مخلصاً، يقوم بمهمة تجميع اليهود وقيادتهم إلى فلسطين، وأن أى جهد بشرى من جانب اليهود فى هذا الاتجاه يمثل مخالفة صارخة لإرادة الرب، الذى قدر الشتات على اليهود، عقاباً لهم على خطاياهم، وهو وحده صاحب الحق فى تحديد موعد الصفح عنهم. لقد أدى هذا الخلاف إلى صراعات فكرية حادة بين أنصار التيار الدينى اليهودى الرافض للصهيونية وبين أتباعها، وتطورت إلى أعمال عنف واغتيالات بالسلاح فى الثلاثينيات من القرن العشرين، قبل أن يصل الطرفان إلى تسوية أدت إلى التعايش والتعاون فى عملية اغتصاب فلسطين. لقد انتهى هذا الصراع الدامى بين التيارين الدينى والعلمانى إلى ما نراه اليوم من وجود أحزاب دينية وأحزاب علمانية فى إسرائيل، تؤمن بصندوق الانتخابات كوسيلة للحكم، وتتشارك معاً فى حكومات ائتلافية، أى مشتركة لرعاية أهدافها المشتركة مع تجنب توسيع الخلافات. لقد استفادت الصهيونية العلمانية، التى أنشأها «هرتزل» من قوة التيار الدينى عندما نجحت فى التفاهم معه، واستفاد التيار الدينى أيضاً من بناء الدولة.. واستفادت دولة إسرائيل بالتالى بتوحيد قوى اليهود المتنوعة فى مواجهة العرب. إن دعوتى اليوم للحوار مع الإخوان ليست جديدة، فلقد راجعت مقالاً كتبته هنا فى «المصرى اليوم» منذ ست سنوات بتاريخ 25/10/2005 تحت عنوان «بين حرية العريان وحوار الإصلاحيين»، فلقد تلقيت دعوة من الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح، قبل نشر ذلك المقال بعدة أيام، لحضور حفل أقامه لصديقه الدكتور عصام العريان، عضو مكتب إرشاد الجماعة، بمناسبة إطلاق سراحه. لقد ذهبت إلى الحفل مهنئاً، وجلست إلى مائدة ضمت د. أبوالفتوح ود. يحيى الجمل، والأستاذ فهمى هويدى، والأستاذ محمد فائق سعيداً بالمناسبة، وبعدها كتبت فى المقال المذكور ما يلى: (أعتقد أن سبب توجيه الدعوة لى لحضور حفل حرية د. العريان هو ذلك المقال الذى نشرته فى «المصرى اليوم» منذ خمسة شهور بعد اعتقاله بعنوان «سيادة الرئيس حاور الإخوان ولنخمد الفتنة)، الذى أنهيته بفقرة تقول: «.. سيادة الرئيس.. لذا أرجوك حاور الإخوان وغيرهم لصالح مصر أو اعتقلنى معهم». لقد حرصت بعد ذلك عندما كلفنى معهد الأهرام الإقليمى، بالمشاركة فى إعداد مؤتمر عن الإصلاح الدستورى، على دعوة ممثلين عن الإخوان، وحضر المؤتمر فى أسوان فى فبراير 2006 الدكتور أحمد أبوبركة، عضو مجلس الشعب، وآخرون. إذن يحق لى اليوم كصاحب دعوة سابقة، فى الوقت الصعب لإشراك الإخوان فى الحوار، أن أطالبهم اليوم بفتح الحوار مع شركاء الثورة، وإزالة أسباب القلق لدى الناس، وقطع الطريق على من يريدون إثارة الفتن وإجهاض الثورة، فهذا الحوار حتمى لصالح مصر وكل القوى السياسية فيها.