العلاج فى المشاركة .. بدلًا من مقاعد المتفرجين على المقهى نفسه فى منطقة وسط البلد تقاسم مينا هانى مهندس الشبكات وصديقه ماجد بيومى مهندس الإنشاءات نشوة الحس الثورى طوال فترة اعتصام التحرير حتى انتهوا بإسقاط الرئيس السابق مبارك، أما اليوم فيجلسان فى حالة مختلفة يشرحها مينا هانى (27 سنة) قائلا: «أنا أحد من مروا بحالة من الانتكاس النفسى بعد أن عدنا من أحداث الثورة إلى مقاعد المتفرجين». أما صديقه ماجد بيومى (28 سنة) فيتعامل مع الموقف بمنطق آخر يشرحه قائلا: «بعد العودة إلى العمل ومع اضطراب الأحداث والغموض المحيط بكثير من القرارات السياسية شعرت بارتباك وإحساس بالعجز، خصوصا مع الالتقاء بمن ليس لديهم أى وعى سياسى أو اهتمام حقيقى بما يحدث حولهم، لكن هذا لم يفقدنى الأمل». القلق الذى مر به كلاهما مؤخرا يرجعانه إلى انسحابهما مع كثير من «شباب التحرير» من الأحداث بعد أن شاركوا فى صنعها، ثم ظهور أسماء أخرى خطفت المشهد العام مثل: «المجلس العسكرى»، «ائتلاف شباب الثورة»، «السلفيين»، «جماعة الإخوان»،.. وغيرهم. حالة القلق على ما أنجزه ثوار التحرير تضخمت حتى تحولت إلى تأرجح بين الشك واليقين حسبما يشرح مينا هانى قائلا: «فى الماضى كان اليقين بالنسبة إلينا أن الطائفية مصنوعة وليست من أخلاقيات الشعب المصرى، كان هناك من يؤمن أن النظام فاسد ويجب إسقاطه، لكن الآن مع استمرار بعض هذه المشاهد، خصوصا فى الحوادث الطائفية الأخيرة، اهتز اليقين داخل البعض بعد أن انكشف الناس أمام بعضهم البعض». حالة الشك التى مر بها دفعته إلى الاعتكاف لفترة بعيدا عن أحداث مثل صعود التيار الدينى وخلافات فريقى نعم ولا فى الاستفتاء الأخير، مستعيدا ما ذكره الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى تحليله عن أن شباب الثورة أشبه برجل كان طموحه الصعود إلى القمر وحين وصل طلب كيلو كباب!. حالة الاهتزاز التى أصابت البعض تجد لها الدكتورة عزة حجازى أستاذة علم النفس الاجتماعى بكلية البنات فى جامعة عين شمس تفسيرا إذ تقول: «ليس من الغريب أن يصاب الفرد باكتئاب بسبب حالة التأرجح بين الأجواء الحالمة الرومانسية التى عاشها كثيرون فى الثورة وتحقيقهم لنصر غير متوقع، ثم تعرضهم لمجهول وغموض لم يعرفوا التعامل معه، وهنا يجب أن نلاحظ أن البعض لديه نفسية هشة خاصة بعد الثورة وكأنه فى حالة نقاهة، لذا لا يحتمل ما يحدث من ارتباك وتصبح حساسيته شديدة تجاه كل ما قد يفسد ما أنجزه». وترى الدكتورة عزة حجازى أن الفئة العمرية التى تنتمى للعشرينيات ومنتصف الثلاثينيات قد عانت طويلا من تغييبها وتكريس إحساسها بالانفصال، لذا فإن هذه المشاركة المفاجئة تحتاج إلى دعم. يعبر ماجد بيومى هو الآخر عن حالة جيله قائلا: «جيلنا الذى شارك فى هذه الأحداث ندم على تفاهة حياته فى التعليم المعتمد على الدروس الخصوصية والمخدرات والتفكير فى هوامش الحياة، يوم 25 يناير كان فرصة للهروب من كل هذا». يصمت قليلا ثم يضيف: «فى العام 2006 تصادف أن وجدت أغلب الكتب التى أريد شراءها ممنوعة من الأسواق، فى ذلك الوقت أصابتنى الحيرة والإحباط، ما أخشاه أن نعود إلى هذه الأيام مع صعود التيار الدينى والحكم العسكرى»، على الرغم من هذا الرأى فإنه مصر على أهمية دوره كفرد فى توعية من حوله دون استسلام. يتوقف عن حديثه فى حين كانت هناك مجموعة مجاورة صاخبة تعقد اجتماعا سياسيا على المقهى، يستفز المشهد مينا الذى يعلق قائلا: «أحد أسباب القلق هو هذا المشهد.. وأجواء وسط البلد.. حيث الاجتماعات واللغو والصخب دون منتج حقيقى، ما أخشاه أن نعود إلى سفسطة الماضى وأن تسرق الثورة من التيارات الدينية، وهؤلاء لن يمكن لمسيحى مثلى على سبيل المثال أن يتحاور معهم، فبعضهم لا يعترف بوجودى بالأساس». رغم تسلسل الأحداث تعود بارقة الأمل لدى كثيرين فى عودة تأثير ميدان التحرير، أما الدكتورة عزة حجازى فترى الحل فى المشاركة السياسية من خلال مجموعات، وتقول: «للتخلص من هذا القلق لابد من الانخراط فى مجموعات عمل إن كانت هناك رغبة حقيقية فى المشاركة، على أن يكون العمل ضمن مجموعة متجانسة ومتفهمة للبيئة التى ستتوجه إليها، على سبيل المثال يجب أن يراعى من يوجه رسالته إلى الآخرين ثقافتهم واختلافهم.. ولا حل للتغلب على أى حالة إحباط طارئة سوى مزيد من الإصرار ثم الإصرار وعدم الاستسلام حتى لا تضيع منجزات الثورة». عداء من منطلق يمينى يُحمّل بولس صالح مسئولية تراجع أجره فى عمله إلى ثورة 25 يناير، فعمله بالسياحة تأثر تأثرا بالغا بعد أحداث الثورة، يقول: «ولسه، الآثار الاقتصادية السلبية للثورة ستظهر فى الفترة القادمة». ولكن موقف بولس العدائى من الثورة ليس سببه فحسب مشكلته العملية، ولكن لأن توجهه الفكرى اليمينى الذى اعتنقه منذ كان دارسا للفلسفة بالجامعة جعله يعارض مطالب الثورة التى هى من وجهة نظره ليست سوى مطالب اشتراكية. يقول: «الناس نزلت للتظاهر بسبب ازدياد أسعار السلع الغذائية، واتجاه حكومة نظيف للسياسات الرأسمالية، والتفكير فى إلغاء الدعم، الناس تعتقد أن دعم الخبز والتعليم والصحة هى حقوق، ولكن الدعم ليس حقا وليس من دور الدولة أن تقدمه». بولس الذى يعمل لأكثر من 12 ساعة يوميا ولا يأخذ إجازات إلا نادرا، لا يعبر عن امتعاضه من ظروف عمله، وبالتالى يسخر من المطالبات بوجود حدين أدنى وأقصى للأجور، «العلاقة بين صاحب العمل والعامل يجب أن تكون علاقة حرة، يتم الاتفاق بينهما ويجب احترام هذا الاتفاق أيا كانت شروطه». يتحفظ بولس فى ترديد أفكاره اليمينية، التى تتضمن أيضا إيمانه بوجود أعراق أرقى من أعراق وإيمانه بفكرة البقاء للأقوى فيما يخص زملاءه فى الحياة اليومية، وإن كان يرددها أحيانا على صفحته بالفيس بوك الذى يتكون جل أصدقائه فيها من الأجانب. بولس فاقد الأمل فى وجود اتجاهات يمينية فى مصر، ويرى أن حتى الاتجاهات التى تدعى ذلك هى أيضا ذات ميول يسارية، فالمعارضة فى مصر كلها اشتراكية. يأس بولس من عدم وجود اتجاهات يمينية غير دينية فى مصر ليس واقعيا تماما، ففى صفحة على الفيس بوك لا يتجاوز عدد المنضمين إليها 45 شخصا، ويدعو الكاتب مدحت محفوظ، صاحب موقع everyscreen.com الذى يعود تاريخ إنشائه إلى عام 1998، إلى تكوين حزب تحت مسمى حزب الحضارة، الحزب يحتضن الأفكار اليمينية نفسها التى يؤمن بها بولس. وربما يبدو بيان الحزب مستفزا لثوار يناير أو حتى لذوى المشاعر الوطنية وفقا للخط التاريخى المتعارف عليه، فهو يصف جيل جمال مبارك وأحمد عز وأحمد نظيف بجيل الحضاريين النبيل، ويصف ثورة 19 بالهوجة، وثورة 52 بالانقلاب. مدحت محفوظ الذى رفض الحديث إلينا بشكل مباشر منتظرا على حد تعبيره مناخا آخر يتوافر فيه حد أدنى من الاستعداد لتلقى الحقائق، يصف على موقعه ثوار 25 يناير من الشباب «بالحمقى المفيدين» أو useful Idiots هذا المصطلح المنسوب للقائد الروسى فلاديمير لينين والذى يقصد أن هناك أفرادا يُستغلون عن طريق سذاجتهم للحماس لقضية ليست شريفة، وهو أيضا رافض للثورة ولطابعها الاشتراكى أو لسيطرة الإخوان عليها، فشباب الثورة من وجهة نظره هم دروع بشرية تستخدم لصالح أجندات إسلامية أو اشتراكية. ومعارضة الاشتراكية هى سمة الاتجاهات اليمينية فى العالم بصفة عامة إذ يذكر قاموس أوكسفورد السياسى المختصر أن اليمينية تعارض الاشتراكية والديمقراطيات الاشتراكية، بالإضافة إلى أن أفكارها تتضمن المحافظة والقومية، أما الاتجاهات اليمينية المتطرفة فقد تتضمن العنصرية والفاشية. ومصطلح يمينى صيغ لأول مرة أثناء الثورة الفرنسية حين كان يجلس المؤيدون للنظام السابق بملكيته وأرستقراطيته ونظامه الكنسى فى الجمعية الوطنية فى جهة اليمين، فى حين كان يجلس على اليسار المؤيدين للثورة. ولا يخلو تفكير كل من مدحت محفوظ وبولس صالح من تصور وجود مؤامرة عالمية كبرى كانت هى المتسببة فى ثورة 25 يناير، فمدحت محفوظ يرى أن ما حدث هو (مؤامرة إخوانية دولية)، وكذلك بولس صالح الذى يرى أن ما حدث أكبر من مصر فهى محاولة يسارية عالمية للسيطرة على العالم. ولكن رغم كارثية الأحداث الأخيرة فى مصر من وجهة نظرهما إلا أنهما لم يفقدا أى أمل، فيأمل مدحت محفوظ فى أن يتحول رئيس مصر القادم إلى فرعون خلال عام أو عامين، وهو ما يراه الاحتمال الأرجح والمعتاد بالنسبة للتاريخ المصرى، كذلك يأمل بولس فى قيام حكومة عسكرية ديكتاتورية تقمع أى صوت معارض. بولس صالح اسم مستعار بناء على رغبة المصدر الباحثون عن الاستقرار فى ذكرى نظام سابق ما زال هناك من تحركه عبارات التخويف, التى ذكرها الرئيس السابق مبارك فى خطابه الشهير مساء جمعة الغضب 28/2 حين قال: «إن ما حدث خلال هذه التظاهرات يتجاوز ما حدث من نهب وفوضى وحرائق لمخطط أبعد من ذلك لزعزعة الاستقرار والانقضاض على الشرعية». رامى مدحت يعمل محاسبا بإحدى الشركات الخاصة أحد المؤمنين بحكمة الرئيس السابق، إذ يقول: «انتهى الاستقرار منذ أن جرت الأحداث الأخيرة، مثلما توقع الرئيس مبارك، وللأسف لا يوجد من يعمل على استعادة الاستقرار». يستخدم رامى لفظ الرئيس عند الحديث عن الرئيس المخلوع، ويؤكد أنه ليس عضوا فى أى حركة داعمة لمبارك أو عضوا فى الحزب الوطنى، ويوضح: «الأحداث الماضية يقصد الثورة لم تأت بجديد، الإصلاح كان قادما فى عهد مبارك وكان سيقضى على الفساد مع الضغط الشعبى». يبدو رامى منفصلا فى حديثه عن المجتمع وقلقه الحالى على منجزات الثورة، إذ يبدو متعلقا بالرئيس السابق مبارك والفريق أحمد شفيق مظهرا العداء للثورة، ويقول: «لا أعلن هذا فى كل المواقف، لكن ما أؤكده أن هناك كثيرين مثلى».. لا يملك رامى دليلا على كثرة من يتفقون معه فى وجهة نظره، لكن زيارة إلى صفحات من نوعية «ائتلاف صفحات مؤيدى مبارك» على شبكة فيس بوك الاجتماعية تكشف عن آخرين مثل رامى قد اختاروا التعبير عن أنفسهم فى فضاء الإنترنت والدخول فى حروب ومواجهات مع الآخرين من منطلق الدفاع عن ذكرى مبارك. وفى صفحة «أنا آسف يا ريس»، التى نالت كما لا بأس به من السخرية على الفيس بوك يقارب عدد الأعضاء 80 ألف عضو، بعضهم شارك بدافع الفضول للتعرف على أنصار مبارك وأهدافهم، وداخل هذه المجموعات هناك من يؤيد فكرة الاستقرار لكنه «ضد مبارك الذى نهب مصر»، وهناك من يتحدث عن النهوض بالاقتصاد بعدما حدث فى الشهرين الأخيرين. لكن تظل السيطرة لأنصار مبارك وكل من يظهر العداء «لبتوع الثورة».. أما الأمر بالنسبة لشاب مثل رامى مدحت الذى لم يتجاوز الرابعة والعشرين، ولم يشارك فى أى حدث عام فيجد فى لفظ الاستقرار حجة تأييد لمبارك أو الفريق أحمد شفيق والندم على ما فعله الثوار، إذ يقول: «النظام الذى سقط كان حاجزا بيننا وبين الإخوان والسلفيين والخونة الذين ظهروا لركوب الموجة.. أنا ضد الفوضى». الحدة التى يظهرها أحيانا فى حديثه عبَّر عنها البعض فى صفحات على الفيس بوك كانت أقرب لصفحات تشهير مثل «صفحة وائل غنيم عميل وبالدليل»، وليست مفاجأة أن تلك الصفحة قد أسسها نفس الشخص الذى أسس صفحة «الفريق احمد شفيق رئيسا للجمهورية 2011»، وهو الشاب أحمد سبايدر مغنى الراب الذى أعلن على الصفحة فخره بأنه بدأ فى النزول إلى الشارع فى حملات توعية سلوكية، لكن شاب آخر وهو أحمد جمال منسق ائتلاف شباب الاستقرار قد اختار أن ينزل إلى الشارع مؤيدا لمبارك فى مرة، وفى مرة أخرى مؤيدا للفريق أحمد شفيق، نافيا هو الآخر انتماءه إلى الحزب الوطنى. يقول: «الإعلام بيصورنا على إننا بلطجية رغم إننا انضربنا فى الشارع». لا يخفى غضبه أثناء حديثه مطلقا عبارات من نوعية: «عصام شرف رئيس وزراء بتوع التحرير»، «عمرى ما هسلم نفسى لناس زى 6 أبريل أو بتوع التحرير»، «دول مش عايزين استقرار.. دى مؤامرة على مصر». هذا الغضب الذى يظهره مؤيدو النظام القديم تحت حجة الاستقرار، ليس افتعالا بقدر ما هو نتيجة الضغط الذى يتعرضون له والنبذ أحيانا فى العمل أو فى الحى مثلما أوضح عدد منهم، وهناك من نشر تعبير «متلازمة ستكهولوم» فى إشارة إلى حالة نفسية شهيرة يرتبط فيها الضحية بالجلاد، وانتشر التعبير فى مقالات على الإنترنت، وتم الربط بين هذه الحالة النفسية وأنصار النظام السابق. وكان أول من أشار إلى هذا التعبير واستخدمه فى وصف المتعلقين بنظام مبارك هو الكاتب علاء الأسوانى، فى عام 2009. وما زالت محاولات أنصار مبارك وأحمد شفيق مستمرة، أما العنوان الكبير المستخدم لخدمة قضيتهم فهو «الاستقرار». أما أحمد جمال منسق ائتلاف شباب الاستقرار فلا يقلق من حبس مبارك أو البلاغات التى قدمت فى السابق ضد الفريق أحمد شفيق، أما عن وجود بدائل أخرى لديه يرضاها فأجاب: «إذا أردنا إشاعة مناخ الاستقرار فى مصر فليس هناك حل سوى أمرين إما حكم رجال الدين مثل الشيخ محمد حسان أو محمد حسين يعقوب أو الحكم العسكرى لأحد رجال القوات المسلحة.. هذا الحل الوحيد لتحقيق الاستقرار والقضاء على حالة الجرأة على الحاكم، التى حدثت لأول مرة بهذا الشكل».