كنت فى زيارة عمل لإحدى المؤسسات الحكومية، فقدم إلىّ المسؤول فنجاناً من القهوة، وبعد أن شربته.. قلت له دايماً، فكان الرد: هنيئاً وإن لم تَرِد! سألت مضيفى: ماذا تعنى «وإن لم ترد»؟ قال: لم ترد عن السلف الصالح! فأنا أتحوط لنفسى بهذه الكلمات! قلت له: ألا نقول شيئاً أو نفعل شيئاً، لم يقله أو يفعله السلف الصالح؟! قال نعم! قلت: هذا التليفون الذى أمامك، والكمبيوتر، بل السيارة، والطائرة، كلها لم يصنعها السلف الصالح، لماذا نستخدمها؟ لقد كان السلف الصالح صالحاً لأنه لم يكن سلفياً، بل كان تقدمياً...! قال ما لم يقله أسلافه، وأبدع وأضاف.. ما نسميه الحضارة الإسلامية! هوذا محمود سبكتيكين.. ترجم الحضارة الهندية.. قاطعنى مضيفى.. قائلاً: أنا لا أحب الحديث فى هذه الأشياء! انتهت مهمتى، وخرجت أفكر فيما سمعت، وأستعرض ما قرأت.. ها هى إيران.. يخرج منها جابر بن حيان، عالم الكيمياء، القزوينى عالم الجيولوجيا الذى برهن على دوران الأرض «القرن 13» أى قبل كوبرنيكس بثلاثة قرون، وأيضاً البيرونى الذى حدد لنا خطوط الطول والعرض على نموذج الكرة الأرضية «القرن 10م». فإذا اتجهنا للسلف الصالح فى مصر.. سوف نجد عالم الحيوان، الدميرى وكتابه «حياة الحيوان الكبرى»، الذى فاق كتاب الحيوان للجاحظ، كذلك ابن يونس المصرى عالم الأرصاد الفلكية (مرصد فى حلوان، وآخر فى سفح المقطم كما علمنا اللوغاريتمات قبل جان نابيير) كما ترك لنا جداول فلكية عن الأجرام السماوية «القرن 10م»، كما أعطتنا مصر ابن الهيثم عالم البصريات. أما إسبانيا «الأندلس» فقد أنجبت لنا آخر الفلاسفة المسلمين ابن رشد الذى تتلمذ على فلسفته القديس توما الأكوينى، كما أنجبت لنا الزهراوى أبو الجراحة «القرن 10م»، كذلك ابن البيطار عالم النبات «القرن 12م». أما بغداد فقد كان من سلفها الصالح إخوان الصفا وخلان الوفا، والتى حوربت واندثرت، كذلك الخوارزمى أبوالرياضيات «القرن 9م»، والذى أدرك قيمة الصفر فى الحساب، ناهيك عن الإدريسى «صقلية» الذى صنع كرة فضية نموذجاً للأرض، والفارابى «تركستان»، هذا الموسيقار العظيم، ابن بطوطة «المغرب»، الأنطاكى «سوريا» كان يدعى أبو الصيدلة، ابن سينا «أفغانستان»، أسكوريدس «مصر» صاحب كتاب خواص العقاقير الذى لم يقدروا على ترجمته، فنقلوه من مصر إلى بغداد، تقول د. نعمات أحمد فؤاد: عمُرت خزائن بغداد بنفائس الإسكندرية. هذا هو السلف الصالح الذى لم يكن سلفياً بل تقدمياً.. كما كانت الدولة فى عصورهم دولة قوية.. خذ مثلاً ما حدث فى العصر العباسى.. حين خرج صبية وحطموا محلاً للخمر فى معرة النعمان «سوريا» وهذا اعتداء على سيادة الدولة! حاصر القائد العسكرى صالح بن مرداس القرية «معرة النعمان» بالمنجنيق «كالمدافع الآن» وأخذ يضربها حتى يخرجوا له بمن حطموا الخمارة واعتدوا على سيادة الدولة!! أخطر البصاصون «المخابرات» أن باباً فتح وخرج منه رجل أعمى يقوده رجل آخر! فأمر صالح بإيقاف الضرب، وعرف أن الأعمى هو العظيم أبو العلاء المعرى، فذهب للقائد.. وعرف أنه جاء يشفع لهؤلاء المعتدين حتى يعفو عنهم.. فأجابه إلى طلبه على أن يسمع منه شعراً، فارتجل أبوالعلاء: فلما مضى العمر إلا الأقل / وحان لروحى فراق الجسد بُعثت شفيعاً إلى صالح / وكان من القوم رأياً فسد فيسمع منّى سجع الحمام / وأسمع منه زئير الأسد هذه هى الدولة التى تحترم سيادتها.. لا الدولة التى تسمح لأحد رعاياها بقطع أذن مواطن، وقتل آخر، وإلقاء آخر من شرفة منزله.. إنها غابة وليست دولة! دولة تتحول تدريجياً إلى شيع وطوائف وقبائل.. مجالس صلح وليست محاكم لسيادة القانون! جمال البنا شقيق الشيخ حسن البنا يبكى على مصر ويقول: المصريون سقطوا ضحية تدليس الإخوان والسلفيين ولن يغفر لهم التاريخ ذلك! ولكنى أرد عليه قائلاً بمثل شعبى: لا أب يعلمها ولا أم تهديها.. ومنين الفضل يأتيها؟! نعم شعب مسكين.. فقير.. أمى.. يتيم.. صفوة مهمشة.. علماء مهجرون.. ثروة منهوبة.. ماذا ننتظر منه بعد ذلك؟! الجهل لا تحيا عليه جماعة كيف الحياة على يد عزريلا؟! أمير الشعراء [email protected]