نشرت صحيفة «الشروق» يوم 17 مارس الحالى مقالاً للمستشار طارق البشرى تحت عنوان «الخائفون من الديمقراطية»، ولأن أستاذنا الجليل، الذى نكن لشخصه ولتاريخه العلمى والمهنى كل التقدير والاحترام، هو رئيس اللجنة المكلفة بإعداد وصياغة التعديلات الدستورية التى طُرحت للاستفتاء يوم 19 من هذا الشهر، فمن الطبيعى أن يصبح على رأس المعسكر المؤيد للتعديلات الدستورية والمطالب بالتصويت عليها ب«نعم». لذا يسهل أن نستنتج أنه استهدف من مقاله، الذى نُشر قبل يومين فقط من الموعد المحدد للاستفتاء على التعديلات، دعم المعسكر المؤيد لها وحث الناخبين على التصويت ب«نعم»، وهذا حقه الذى لا ينكره عليه أحد. غير أنه لم يكتف بسرد وتحليل المبررات التى بنى عليها موقفه المؤيد وإنما ذهب إلى حد اتهام «الفريق الآخر» الذى انتقد التعديلات ودعا للتصويت عليها ب«لا» بأنه «خائف من الديمقراطية». ولأن الفرق بين «الخائف» و«المعادى»، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالموقف من الديمقراطية، ليس كبيرا فى الواقع، فمن الواضح أن الاتهام بالخوف من الديمقراطية يكاد يماثل الاتهام بالعداء لها، وهو اتهام جد خطير. صحيح أن المستشار البشرى لم يذهب، كما فعل آخرون، إلى حد اتهام الرافضين للتعديلات الدستورية بالخروج عن الملة أو الدين، وهو اتهام يعرض دم صاحبه للاستباحة، إلا أن الاتهام بالخروج عن الديمقراطية ينطوى بدوره على نوع من الاغتيال المعنوى لصاحبه. فهل يعد كل من قال «لا» للتعديلات الدستورية فى استفتاء 19 مارس رافضاً للديمقراطية أو معادياً لها أو خائفاً منها؟ لقد بنى مفكرنا الكبير حجته الأساسية على ما أعتقد أنه سابقة تاريخية، ومن ثم قابلة للقياس عليها، حين اعتبر أن ما يحدث فى مصر الآن يشبه بالضبط ما حدث فى مارس عام 1954. ومن المعروف أن ثورة يوليو 52، التى أطاحت بالنظام الملكى وحكم الإقطاع، كانت قد تعرضت لضغوط من داخل وخارج الجيش اضطر معها مجلس قيادة الثورة للإعلان فى 5 مارس 1954 عن عزمه إلغاء حالة الطوارئ وتشكيل جمعية تأسيسية لصياغة دستور جديد وإلغاء الرقابة على النشر، ولذا قرر فى 25 مارس حل نفسه والسماح بقيام الأحزاب وبدء الإجراءات الخاصة بانتخاب جمعية تأسيسية، وهو ما رأى فيه البشرى «تغليباً للوجه الديمقراطى لثورة يوليو على وجهها الآخر». غير أن البشرى راح يستطرد متعجباً: «فاجأت هذه القرارات الكثيرين، وقالوا إن من شأنها أن تعيد العهد الماضى البغيض، وأبدوا الهلع والفزع من المهزومين وبدأت موجة من المظاهرات والإضرابات تطالب بعودة مجلس قيادة الثورة.. وهكذا تحدد فى هذه الأيام القليلة من عام 54 نظام الحكم المصرى لسبع وخمسين سنة تلت.. وكان وجه العجب فى هذا الموقف أن جماهير من الشعب المصرى فزعوا من عودة الديمقراطية والبرلمانية وكأنهم سيواجهون خطرا مهددا ومعضلة كبيرة، وفارقوا بين الثورة والديمقراطية الانتخابية وكأنهما ضدان لا يلتقيان، وكانوا غير واثقين من أنفسهم.. خافوا ممن هزموهم وأقصوهم». ثم أجرى مقارنة بين ما حدث فى مصر عام 54 وما يحدث فيها الآن قائلاً: «نجد فى التو واللحظة فريقاً من أهل مصر، المثقفين والساسة والإعلاميين يثيرون ذات المخاوف من الديمقراطية التى ظهرت سنة ، ويقولون إن انتخابات فى عدة شهور قليلة من شأنها أن تفكك الثورة وأن تعيد الحزب الوطنى السابق وهو الحزب المهزوم بفعل ثورة لاتزال قائمة، وإن ممارسة الديمقراطية المبكرة من شأنها أن تفكك احتمالات البناء الديمقراطى، غير مدركين فيما يبدو ما فى هذا القول من تناقض. فلو كانت جماهير الثورة تخاف من الحزب الحاكم فيما سبق فلِمَ قامت الثورة تتحداه، ومادامت قد هزمته فلِمَ تخاف من بقاياه». وليسمح لنا أستاذنا الجليل بأن نختلف معه فيما ذهب إليه، فلا وجه البتة للمقارنة بين ما حدث فى مصر فى مارس 54 وما يحدث فيها الآن، أو بين ثورة 23 يوليو 52 وثورة 25 يناير 2011، وذلك للأسباب التالية: ففى مارس من عام 54 كانت حركة يوليو لاتزال فى طورها «الانقلابى» ولم يكن وجهها الثورى قد تأكد بعد، وهو وجه لم يظهر إلا بعد أن ترسخت قيادة عبدالناصر. ومن المفارقة أن زعامة عبدالناصر، التى يثنى عليها البشرى كثيرا، لم تترسخ إلا بسبب المظاهرات والاحتجاجات المطالبة بعودة مجلس قيادة الثورة، والتى يدينها البشرى ويعتبرها السبب الرئيسى فى ترسيخ دعائم نظام الاستبداد الذى ساد بعد ذلك. كانت حركة الجيش فى يوليو 52، فى بدايتها على الأقل، بمثابة انقلاب على الديمقراطية، أما انتفاضة الشعب فى يناير 2011 فكانت منذ اللحظة الأولى ثورة على الاستبداد. صحيح أن مقومات الديمقراطية فى مصر عام 52 لم تكن قد اكتملت بعد، بسبب وقوعها تحت التأثيرات المتباينة لعوامل شد وجذب بين احتلال أجنبى يمسك بمفاتيح السلطة الحقيقية وقصر يرفض التخلى عن جانب من صلاحياته وإقامة ملكية دستورية، إلا أنه لا وجه للمقارنة إطلاقا بين خريطة مصر السياسية فى مارس 54، وخريطتها فى مارس 2011. فى مارس 54 كان مجلس قيادة الثورة هو الصانع والقائد الحقيقى لحركة التغيير التى فجرها الجيش وحظيت بتأييد شعبى، وبالتالى كان يعرف بالضبط ما يريد. ولأن المرحلة الانتقالية التى حددت بثلاث سنوات لم تكن قد انتهت، فلم يكن من المستبعد وقوف بعض عناصر مجلس قيادة الثورة وراء المظاهرات التى اندلعت، إما لاستكمال برنامج المرحلة الانتقالية أو طمعاً فى البقاء فى السلطة. أما فى عام 2011 فلم يكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو صانع الثورة، ولم يكن راغباً فى السلطة أو طامحاً فيها أو محرضاً لمظاهرات تستهدف تمكينه منها، ولم يكن هناك إعلان دستورى أو جدول زمنى لإدارة المرحلة الانتقالية التى اقترح المجلس نفسه أن تكون لستة أشهر فقط، ولم يطلق مظاهرات أو احتجاجات تطالب بالديكتاتورية. فى سياق كهذا يبدو واضحاً أن الخلاف حول التعديلات الدستورية كان فى جوهره حول نهج وطريقة إدارة المرحلة الانتقالية، ولم يكن خلافاً بين معسكرين أحدهما خائف من الديمقراطية ومعاد لها، والآخر مقدم عليها ومرحب بها. ولأن صنّاع ثورة يناير ليسوا فى موقع الممسك بالسلطة وصناع القرار، فقد كان هناك خوف حقيقى مشروع، من أن تؤدى إدارة المرحلة الانتقالية بطريقة ملتوية إلى التمكين لقوى النظام القديم من الالتفاف حول الثورة وإجهاضها. ولأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لم يقم عقب تسلمه السلطة بحركة تطهير مماثلة لتلك التى قام بها مجلس قيادة ثورة يوليو لاستئصال جذور النظام القديم، بصرف النظر عن مدى سلامة النهج الذى اتبعه فى هذا الصدد، فقد كان لهذه المخاوف ما يبررها تماماً. وحجة البشرى فى هذا الصدد، والقائلة إنه لا يعقل أن يخاف الشعب المنتصر من فلول نظام هزمه وأسقطه، هى حجة مردود عليها. فمن السهل جدا أن يتوحد الشعب على اختلاف قواه وتياراته السياسية والأيديولوجية فى مواجهة نظام فاسد ومستبد، وأن يتمكن من إسقاطه وهزيمته، ولكن ليس من السهل عليه أن يتوحد عند الشروع فى بناء نظام سياسى جديد يحل محل النظام المنهار. لذا يصبح من الضرورى جداً تنظيف المكان، بإزالة الركام الذى خلفه النظام المنهار واستئصال جذوره الضاربة فى عمق المجتمع، قبل الشروع فى إرساء قواعد البناء، التى يتعين أن تكون على أسس متكافئة تكفل إطلاق المنافسة بين التيارات السياسية المتنافسة لملء الفراغ الناجم عن انهيار النظام القديم، إلى أن تكتمل طوابق المبنى الجديد. غير أن التيار الإسلامى بمنابعه وروافده المختلفة تصور خطأ، خصوصا حين طالب البعض بمرحلة انتقالية أطول وبالشروع فى كتابة دستور جديد، أن المقصود تقليص دوره فى النظام الجديد وليس استئصال جذور النظام القديم، وإلغاء المادة الثانية من دستور 71 وليس التأسيس لدولة مدنية حديثة يطالب بها الجميع، ومن هنا جاءت حالة الاستقطاب المؤسفة التى ظهرت والتى أحدثت شروخاً عميقة فى بنية القوى التى ساهمت فى إنجاح ثورة يناير. ليس صحيحاً أن الذين تبنوا نهج التعديلات الدستورية وصوتوا لصالحها ب«نعم» اختاروا الطريق الأقصر والأكثر استقامة نحو الديمقراطية، وإنما العكس هو الصحيح. فوفقاً للتعديلات التى تم إقرارها سيجرى الجدول الزمنى على النحو التالى: انتخابات لمجلسى الشعب والشورى خلال ستة أشهر، تعقبها انتخابات لرئاسة الجمهورية بعد ثلاثة أشهر أخرى، ثم تشكل جمعية تأسيسية من مائة عضو يتعين أن تفرغ من صياغة دستور جديد خلال ستة أشهر من تشكيلها، ثم يطرح الدستور الجديد للاستفتاء، وبعد إقراره تبدأ دورة انتخابية جديدة. ولأن المرحلة «الانتقالية» لن تكتمل إلا بعد إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية وفقاً للقواعد التى حددها الدستور الجديد، فمن المتوقع أن تستغرق فترة زمنية لن تقل بأى حال من الأحوال عن ثمانية عشر شهراً وربما تستغرق عامين كاملين. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن إجراء تعديلات على دستور 71 المجمد يثير تعقيدات دستورية لا حصر لها لتبين لنا أن البدء بإعلان دستورى وتشكيل هيئة تأسيسية لوضع دستور جديد كان هو الطريق الأقصر والأكثر استقامة لتأسيس نظام ديمقراطى جديد. لذا أعتقد جازماً أن الذين صوتوا ب«لا» على التعديلات الدستورية، وأنا واحد منهم، كانوا مدفوعين بالخوف على الديمقراطية وليس منها.