حالة من الفزع اغتصبتنى وافترست ثقتى فى نفسى وألقت بى فى غياهب الشكوك وأنا أتابع ذلك التكالب الإعلامى المسعور على تغطية أخبار عبود الزمر منذ صدور قرار الإفراج عنه هو وابن عمه طارق الزمر، ثم خروجه من السجن ثم استقبال أهله له بقرية ناهيا ثم السعى للتنافس على استضافته فى وسائل الإعلام، إما عن طريق التليفون أو الذهاب إليه وإجراء الحوارات معه، لا فرق فى ذلك بين مختلف برامج التوك شو فى الإعلام الحكومى أو فى القنوات الفضائية، لا فرق فى ذلك بين من كانوا يسوقون لغزوة الجمال والبغال والحمير إلى ميدان التحرير فى يوم الأربعاء الأسود، ومن يروّجون لثقافة البداوة تحت مظلة الإثارة والرغبة فى الظفر بسبق إعلامى، لا أراه سوى سقطة مارسها منتسبون لتلك المهنة التى امتلكوا أدواتها ولم يتزودوا بآدابها، قرأوا عنها وربما درسوها دون أن يغوصوا فى فلسفتها المبنية على احترام العقول والمشاعر وحرية التلقى، والمتجاوزة لألاعيب الصحف الصفراء فى التلفيق من أجل التشويق. أكثر ما كان يدهشنى فى تلك التغطية الإعلامية، من مع من؟ ومن ضد من؟ ولمصلحة من يتم تلميع رموز التيارات الإسلامية على اختلاف توجهاتها؟ ولماذا فى هذا التوقيت بالذات الذى بدأت فيه بعض أيادى الغدر فى اللعب بورقة الفتنة الطائفية؟ وما رصيد عبود الزمر فى الحياة السياسية كى تطبل وتزمر له وسائل إعلامنا المحترمة؟ يمكن لأى إنسان- مهما كانت ضحالة ثقافته- أن يدرك فى تلك التغطية ما يثير العجب والاستغراب، فهناك برامج سجلت للزمر وأذاعت له فى وقت واحد، هناك برامج أفردت للرجل حلقات خاصة، هناك صحف اشترط عليها الشيخ عبود وقتا محددا لإجراء الحوار معها، هناك مذيعة لامعة استضافت: جورج بوش ورجب طيب أردوجان والدكتور محمد البرادعى والكاتب الكبير محمد حسنين هيكل...إلخ، ثم عطفت على تلك القائمة العظيمة- ولأسباب غير معروفة- الشيخ عبود الزمر، وكأنه اعتراف منها بمساواته لهم فى عظمة القيمة والفكر والعبقرية السياسية والتاريخية، وكأنه اعتراف منها ببطولة سرية يُحتفل بها بأثر رجعى، وبزعامة صُنعت فى تايوان وجب التسويق لها على أرض الكنانة، وأظن أن ممن لم يقع فى هذا الفخ المشبوه وتلك الهوة السحيقة من التغطية الإعلامية العشوائية الأستاذ أحمد المسلمانى الذى قد أختلف معه قليلا ولكنى لا أخالفه لثقتى فى وطنيته ونبل مقصده. إن خروج الزمر لم يكن يحتاج أكثر من خبر عادى لا تزيد مساحته على بضع كلمات تُعرف القارئ بأن من شارك فى قتل السادات أمضى العقوبة التى يستحقها. أما هذه الزفة الإعلامية لشخص تجلت عبقريته فى تبنى مبدأ العنف من موقعه كأمير سابق لجماعة الجهاد، واغتيال زعيم عظيم نجح فى تصفية مراكز القوى وصنع نصر أكتوبر وأعاد افتتاح قناة السويس ووقع معاهدة سلام مع إسرائيل واسترد سيناء الحبيبة، فتلك مؤامرة على وعى الناس وقيمهم التى تستمد عظمتها من أن «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا»، «ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم»، ومن قتلوا السادات أو حرّضوا على قتله هم من أفسدوا فرحة الناس بنصر أكتوبر وحولوها لمأتم عام 1981، هم من استبدلوا بالسادات الذى قدم الكثير من أجل مصر حسنى مبارك الذى عاند الناس وأذلهم مدة 30 سنة وتعمد تفتيت قوتهم وإهدار مواردهم وإجهاض إبداعاتهم ومحو احترامهم لأنفسهم ولبعضهم البعض وتزييف إرادتهم وتغريبهم على أرضهم، هم من استبدلوا بالسادات، رجلاً ألقى بنفسه على الأرض تحت الكراسى خوفا على حياته ودون أن يحسب لعزته أى حساب. عبود الزمر خرج من سجن لجريمة ارتكبها وهذا حقه الذى لا يصح أن يُمنح أكثر أو أقل منه. أما فرضه علينا بهذه الصورة فليس من حق أحد، لأن الرأى العام يصنع ولا يُصنع ، يفرض ولا يُفرض عليه. مصر فى مخاضها الصعب تحتاج لإعلام مهنى له فلسفة ورؤية ومنهج وهدف ورواد يعلّمون الناس الفرق بين من يقتل ليهدم ومن يناضل ليبنى، بين من يتخذ الموت طريقا للحياة ومن يحترم القانون ويعلى من قيمة الإنسان وحقه فى الحياة، وبين إعلام الهدم وإعلام البناء. طبعا هناك فرق. [email protected]