«قال شيشرون إن سقراط أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، لكنني أقول إن الدكتور فؤاد زكريا حشرها على سلم الأتوبيس وأوقفها في طابور الجمعية». هذا هو المدخل الذي كتبته لأول حوار مباشر مع أستاذ الفلسفة البارز والمفكر العلماني الشهير د. فؤاد زكريا (رحمة الله عليه)، فقد ذهبت إلى الرجل في منتصف ثمانينيات القرن الماضي محملا بأسئلة فلسفية كثيرة، حاولت من خلالها تأصيل المشكلات في الوطن العربي بنظرة فلسفية، لأنني كنت أجري الحوار للنشر في دورية شهرية رصينة يصدرها في بيروت المفكر القومي معن بشور، وكان الدكتور زكريا قد عاد إلى القاهرة في إجازته الصيفية؛ حيث يعمل رئيسا لقسم الفلسفة في جامعة الكويت، واستقبلني بمفرده في منزله خلف مسجد رابعة العدوية بمدينة نصر، وصمم على أن يقدم بنفسه واجب الضيافة، واقترحت أن نتشارك معا في ذلك، ما خلق جوا من الود والدردشة، كسر رهبة لقائي بالمفكر الذي أبهرني في فترات المراهقة بكتابه «آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة»، والذي ظل حتى الآن إحدى ركائز الكتب التي لا أستغني عنها، وكلما ضاعت نسخة حرصت على شراء غيرها، كما تعلقت في بداياتي الجامعية بدراسته التي نشرت في كتيب صغير بعنوان «العرب والنموذج الأمريكي»، وتابعت بإعجاب مقالاته الصحفية، وبرغم عدائه للناصرية التي كنت أعتنقها وأناضل تحت رايتها في الجامعة فإن ذلك لم يقلل من إعجابي بأفكار الدكتور زكريا وانحيازه الواضح لليسار عموما، ودفاعه العنيد عن الفكر العقلاني العلماني. ومع تدفق الحوار، كان الحماس الفكري يرتفع، والجدال يشتد، لأنني كنت أفتش عن الفيلسوف، فلا أجد إلا السياسي المعارض، وشعرت بنوع من الارتباك الداخلي، لأن الدكتور زكريا كان يتحدث بدرجة من التشاؤم وصلت إلى حد تحذيره من انقراض العرب على طريقة الهنود الحمر، وفي محاولة للهروب إلى الأمام تقعرت وسألته عن تصوره للدور الذي يمكن أن يقدمه العرب في هذا العصر الذي تنشغل فيها القوى الكبرى بالحديث عن حرب النجوم، والصراع على امتلاك الفضاء؟ وبصوته الهادئ أجاب الدكتور زكريا: عليهم أن ينشغلوا بحل مشكلة القمامة في الشوارع، وتوفير الرغيف في المخابز، وتربية التلاميذ بشكل جيد في المدارس. وصدمتني إجابة الفيلسوف، لكنها نقلت الحوار إلى منطقة أسخن، وهي منطقة المشكلات السياسية والاجتماعية، ودور الفلسفة في خدمة المجتمع، والاشتباك مع مثل هذه المشكلات، بدلا من الدوران في اللغة، وتغييب قضايا الحياة وراء ستار من الكلام الفلسفي والصراعات المذهبية بين الفلاسفة. ونجح اللقاء الأول في تحرير عقد صداقة مع الدكتور زكريا، كنا نجدده مع كل زيارة سنوية، وفي مطلع الألفية الثالثة في عام 2000، كنت منشعلا بكتابة 30 حلقة عن أبرز الشخصيات التي أثرت في العالم (من وجهة نظري)، وكان من بينها ليون تروتسكي، وكنت أعتبره من نبلاء اليسار الكبار، في مقابل دموية وبطش ستالين، وكنت مأخوذا بقصة هروبه للمكسيك والدراما التي انتهت باغتياله هناك، وقادني البحث في حياة تروتسكي إلى حوار مع فيلسوف أمريكي اسمه ريتشارد رورتي أجراه الصحفي الأمريكي سكوت ستوسيل (يمنكم الاطلاع على النص الكامل للحوار في هذا اللينك: https://www.theatlantic.com/past/docs/unbound/bookauth/ba980423.htm وتعجبت في البداية من وجود فيلسوف أمريكي بهذه الأهمية، ولما قرأت عن نشأة رورتي في عائلة تروتسكية، وحديثه الفاتن عن اليسار باعتباره أمل أمريكا في حياة محترمة، اندفعت للقراءة له وعنه أكثر، ووجدت نفسي أربط بينه وبين الدكتور زكريا، فهو أيضا من الفلاسفة الذين هاجموا الفلسفة الشائعة التي تسكن مناهجنا وأدمغتنا، واقتربوا من الفعل الثقافي والسياسي في الحياة اليومية، والعجيب أن التشابه الفكري بين زكريا ورورتي، ساعد على اقتناعي بوجود تشابه بينهما في المظهر أيضا، لكن التشابه الأهم الذي استقر في تكويني هو اقتناعهما بتوظيف الفلسفة والفكر في خدمة قضايا المجتمع، والالتزام بما تفرضه الحياة من موضوعات، والخروج من عزلة الأروقة البحثية والأبراج الأكاديمية إلى الأفق الإنساني الواسع، فقد كتب فؤاد زكريا عن الانتماء والتعصب في مدرجات الكرة، وأهمية التفكير العلمي، ووقف كحائط ضد استخدام الدين في تغييب العقل وتكريس واقع التخلف، وسعى إلى مناظرة شهيرة مع الشيخ الغزالي نظمته نقابة الأطباء في القاهرة، وكذلك فعل رورتي من خلال اشتباكه الدائم مع قضايا بلده وعصره، وسعيه للكتابة الصحفية بحثا عن جمهور أوسع، وتركيزه في هذه المقالات على قضايا التربية العامة، وتطرف قوى السوق، والحرب على العراق، ودعوة المثقفين للانخراط في "العمل الاجتماعي" وتحويل اهتماماتهم من «مشاكل الفلسفة» إلى «مشاكل الناس». وأعجبني رورتي عندما أطلق على اليسار تعريف «حزب الأمل»، ونصح اليساريين باستلهام روح الشاعر العظيم والت ويتمان، وأفكار الفيلسوف جون ديوي، للخروج من خيبة فشل اليسار في معالجة الظلم الاجتماعي. أليس غريبا أن يدعو فيلسوف البرجماتية الأمريكية إلى العدل الاجتماعي، ويحذر من وحشية الرأسمالية، وتلاعبها بديمقراطية زائفة تسعى للسيطرة على روح الإنسان عبر شركات الطمع العملاقة، والإعلام المصنوع، وقيم الاستهلاك التي تربط الأفراد بقيود خفية بحيث يتوهمون أنهم أحرار، في حين أنهم أسرى عبودية جديدة تحكمها مافيا التحكم عن بعد؟! هل يعنينا هذا الكلام في شيء؟ فكروا وأخبروني برأيكم. [email protected]