ثبات نسبي لسعر صرف العملات أمام الجنيه المصري بأسوان — الخميس 13 نوفمبر 2025    الإسكان: طرح 25 ألف وحدة عبر منصة مصر العقارية بتقسيط حتى 7 سنوات وسداد إلكتروني كامل    إنهاء أطول إغلاق حكومى بتاريخ أمريكا بتوقيع ترامب على قانون تمويل الحكومة    فلسطين سيئة وتل أبيب تبادلنا الود، تصريح مثير من وزير خارجية تايوان عن دول الشرق الأوسط    زلزال بقوة 4.6 درجات يضرب شمال شرقي الصومال    حالة الطرق اليوم، كثافة مرورية تشل المناطق الحيوية بالقاهرة والجيزة والقليوبية    أديل تخوض أولى تجاربها التمثيلية في "Cry to Heaven" للمخرج الشهير توم فورد    إسعاد يونس: أتمنى استضافة عادل إمام وعبلة كامل وإنعام سالوسة «لكنهم يرفضون الظهور إعلاميا»    وزير الخارجية: استمرار الحرب في السودان أمر موجع.. ومصر تتحرك لحماية وحدة الدولة الشقيقة    الصحة: خلو مصر من التراخوما إنجاز عالمي جديد.. ورؤية الدولة هي الاستثمار في الإنسان    10 صيغ لطلب الرزق وصلاح الأحوال| فيديو    صدام وشيك بين الأهلي واتحاد الكرة بسبب عقوبات مباراة السوبر    عوض تاج الدين: الاستثمار في الرعاية الصحية أساسي لتطوير الإنسان والاقتصاد المصري    مصمم أزياء حفل افتتاح المتحف المصري الكبير: صُنعت في مصر من الألف للياء    تراجع جديد.. أسعار الفراخ والبيض في أسواق الشرقية الخميس 13-11-2025    تنمية التجارة يتابع الأداء وتطوير الخدمات دعمًا لتحقيق رؤية مصر 2030    صاحب السيارة تنازل.. سعد الصغير يعلن انتهاء أزمة حادث إسماعيل الليثي (فيديو)    مؤتمر حاشد لدعم مرشحي القائمة الوطنية في انتخابات النواب بالقنطرة غرب الإسماعيلية (صور)    الولايات المتحدة تُنهي سك عملة "السنت" رسميًا بعد أكثر من قرنين من التداول    استخراج الشهادات بالمحافظات.. تسهيلات «التجنيد والتعبئة» تربط أصحاب الهمم بالوطن    فائدة تصل ل 21.25%.. تفاصيل أعلى شهادات البنك الأهلي المصري    عباس شراقي: تجارب توربينات سد النهضة غير مكتملة    أمطار تضرب بقوة هذه الأماكن.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس خلال الساعات المقبلة    حبس المتهمين بسرقة معدات تصوير من شركة في عابدين    قانون يكرّس الدولة البوليسية .."الإجراءات الجنائية": تقنين القمع باسم العدالة وبدائل شكلية للحبس الاحتياطي    نجم الزمالك السابق: «لو مكان مرتجي هقول ل زيزو عيب».. وأيمن عبدالعزيز يرد: «ميقدرش يعمل كده»    حبس المتهم بقتل زوجته فى المنوفية بسبب خلافات زوجية    من «رأس الحكمة» إلى «علم الروم».. مصر قبلة الاستثمار    احسب إجازاتك.. تعرف على موعد العطلات الدينية والرسمية في 2026    غضب واسع بعد إعلان فرقة إسرائيلية إقامة حفلات لأم كلثوم.. والأسرة تتحرك قانونيا    إعلام: زيلينسكي وأجهزة مكافحة الفساد الأوكرانية على شفا الحرب    التفاف على توصيات الأمم المتحدة .. السيسي يصدّق على قانون الإجراءات الجنائية الجديد    القيادة المركزية الأمريكية: نفذنا 22 عملية أمنية ضد "داعش" طوال الشهر الماضي    قرارات جديدة بشأن مصرع وإصابة 7 في حادث منشأة القناطر    مرور الإسكندرية يواصل حملاته لضبط المخالفات بجميع أنحاء المحافظة    المستشار بنداري: أشكر وسائل الإعلام على صدق تغطية انتخابات نواب 2025    بتروجت: اتفاق ثلاثي مع الزمالك وحمدان لانتقاله في يناير ولكن.. وحقيقة عرض الأهلي    أبو ريدة: سنخوض مباريات قوية في مارس استعدادا لكأس العالم    الإنتاج الحربي يلتقي أسوان في الجولة ال 12 بدوري المحترفين    قفزة في سعر الذهب اليوم.. وعيار 21 الآن في السودان ببداية تعاملات الخميس 13 نوفمبر 2025    الاحتلال الإسرائيلي يشن سلسلة اقتحامات وعمليات نسف في الضفة الغربية وقطاع غزة    فيفي عبده تبارك ل مي عز الدين زواجها.. والأخيرة ترد: «الله يبارك فيكي يا ماما»    واشنطن تدعو لتحرك دولي عاجل لوقف إمدادات السلاح لقوات الدعم السريع    فرصة مميزة للمعلمين 2025.. التقديم الآن علي اعتماد المراكز التدريبية لدى الأكاديمية المهنية    بدء نوة المكنسة بالإسكندرية.. أمطار متوسطة ورعدية تضرب عدة مناطق    يقضي على ذاكرتك.. أهم أضرار استخدام الشاشات لفترات طويلة    النيابة العامة تخصص جزء من رسوم خدماتها الرقمية لصالح مستشفى سرطان الأطفال    محمود فوزي ل"من مصر": قانون الإجراءات الجنائية زوّد بدائل الحبس الاحتياطي    خبير لوائح: قرارات لجنة الانضباط «تهريج».. ولا يوجد نص يعاقب زيزو    تأكيد لليوم السابع.. اتحاد الكرة يعلن حرية انتقال اللاعبين الهواة بدون قيود    حيثيات حبس البلوجر «سوزي الأردنية»: «الحرية لا تعني الانفلات»    «يتميز بالانضباط التكتيكي».. نجم الأهلي السابق يتغنى ب طاهر محمد طاهر    قد يؤدي إلى العمى.. أعراض وأسباب التراكوما بعد القضاء على المرض في مصر    مقرمش جدا من بره.. أفضل طريقة لقلي السمك بدون نقطة زيت    قصر صلاة الظهر مع الفجر أثناء السفر؟.. أمين الفتوى يجيب    رئيس الإدارة المركزية لمنطقة شمال سيناء يتفقد مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن الكريم بالعريش    انطلاق اختبارات «مدرسة التلاوة المصرية» بالأزهر لاكتشاف جيل جديد من قراء القرآن    دعاء الفجر | اللهم ارزق كل مهموم بالفرج واشفِ مرضانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فتنة أسوان – الجذور والذرائع (2)
نشر في المصري اليوم يوم 09 - 04 - 2014

هل تريدون فعلا معرفة جذور الفتنة المشتعلة في أسوان؟
بسيطة، اقرأوا هذه الكلمات:
«أباياسا/ أبا هيسكنا/ وشوستا ريلي نايا/ نوبه وومه نيلي كو/ شورتين تول
كونو سوتو/ كافا البلا وكين جيرا».
هل فهمتم الموضوع؟ هل مست هذه المشاعر وجدانكم؟ هل ذرف أحدكم دمعة تعاطف مع هذا الوجع؟
طبعا لا، ليس لأنكم جاحدون (لا سمح الله) أو بلا مشاعر، لكن فقط لأنكم لم تفهموا هذه الكلمات، ولم تعرفوا قصتها.
المشكلة إذن في الفهم ومدى التواصل، فأنتم لا تعرفون معاني هذه الكلمات النوبية التي غناها محمد منير. برغم أن معظمكم ربما قد سمعها ورددها، كما يردد «سية .. سية ووسية» أو «الله لون يالون»، أو «شمندورة منجنا»، أو «نيجرييه»، لكن الكلمات لم تذهب أبعد من أذنكم ولم تصل إلى القلب أو العقل، وهذا ما يجعلنا أحيانا نرتكب جريمة الرقص على إيقاعات الحزن والفجيعة التي تسكن أعماق إخوتنا في الدين أو الوطن!
الكلمات نفسها تقول باللغة العربية:
«ترى هل سيكون فى وسعنا/ أن ننسى وكأن شيئًا لم يحدث/ يا نوبة يا موطن الجميع وحبهم الكبير/ مكانك فى القلب/ لا وألف لا/ اصرف عنا البلاء يارب».
البلاء الذي تتحدث عنه الأغنية ليس له أي علاقة بجرائم القتل ومشاعر الثأر والانتقام التي تلوث منذ أيام وجه الأمان والسماحة في بلاد الذهب، فهي تتحدث عن وجع الغربة والحنين للوطن الغارق تحت مياه النيل، وهذا الوطن هو المأساة العميقة المحفورة في وجدان كل نوبي، حتى الذي ولد وعاش في القاهرة أو الإسكندرية بعيدا عن الوطن الأم جنوب السد العالي، فالنوبي يحمل وطنه أينما ذهب، ويحلم باسترداده مهما ابتعد، ولن تهدأ روحه حتى يعود ليزرع ويحصد ويرقص ويغني ويحب في أحضان النيل.
وكنا في المقال السابق قد تحدثنا عن الشتات الهلالي باعتباره اختيارا للبحث عن بطولة، أو هربا من صراع مع سلطة، أو غراما باستكمال أمجاد أبوزيد وذياب بن غانم والزناتي خليفة، أو حتى لاستطابة الترحال حسب قول الشاعر «لذة العيش في التنقل»، أو «يفوز باللذات كل مغامر»، لكن الشتات النوبي ليس اختيارا أبدا، بل هو اضطرار أشبه باللعنة القدرية، وتيه أوديسي فرضته ظروف مختلفة تنوعت بين السياسي والاقتصادي والجغرافي، لكن النوبي لم يعترف أبدا بهذه الظروف، ولم يستسلم أبدا للتيه، ويشعر بأن بيته وأرضه ينتظرانه كما تنتظر بينلوبي زوجها التائه في البحار، فالحياة عند النوبي تبدأ وتنتهي داخل حضن الوطن بكل ما يحمله من مفردات الثقافة والفن، والعادات والتقاليد، وطبيعة العمل، والعلاقات بين الأفراد، لذلك ظل النوبي محافظا على طابعه دون تعارض مع المحيط الحضاري الذي يعيش فيه، فهو يتكلم العربية ويحتفظ بلغته النوبية، يعيش مع الآخرين لكنه يبني بطريقته، ويتزوج بطريقته، ويغني بطريقته، في أجواء من الطيبة والسماحة والمرح وعدم الميل للعنف.
ما الذي حدث إذن ليتورط هذا النوبي الذي نعرفه في كل هذا الدم، ويقدم نوعا من الخطاب الانتقامي الغريب على طبيعته ومفردات لغته؟
لم أتوقف بخوف عند مفردات الحنين في أغاني النوبة، ولا لغة العتاب من التجاهل التي أشهرها محمد خليل قاسم في رواية «الشمندورة»، أو حتى في أعمال حسن نور، وإدريس علي، وحجاج أدول وغيرهم، ولا حتى من تصريحات الغضب ضد الدولة على ألسنة الناشطين النوبيين، لكنني بدأت أخشى من تحول هذه المشاعر النبيلة إلى نزوع انفصالي بعد أن طالعت بيانا لممثلي النوبة في المؤتمر الثاني للأقباط الذي عقد في واشنطن نهاية عام 2005، ثم تلقف عدد من المنظمات ونواب الكونجرس الأمريكي لهذا الخيط بسرعة، في محاولة لوضع فكرة الوطن النوبي الخاص (نوبت) في مواجهة وتعارض مع الوطن الأشمل (مصر)، وعقب ثورة يناير وتولي الإخوان الحكم، انفلتت المخاوف والهواجس النوبية، كرد فعل على تصريحات جاهلة وغير مسؤولة من قيادات الجماعة، وعلى رأسهم الرئيس محمد مرسي الذي وصف النوبيين في أول خطاباته بأنهم «جالية»، كما وصفهم نائب رئيس الحزب الحاكم حينذاك عصام العريان بأنهم «غزاة» و«بقايا الهكسوس في مصر»، ووصفهم القيادي الإخواني حسين عبدالقادر بأنهم من الأمازيج وقبائل البربر في الصحراء الكبرى.
وحتى لا نرمي المشكلة على الإخوان وحدهم، أستعيد تصريحا قديما لمحافظ أسوان الأسبق اللواء سمير يوسف قال فيه لجريدة الوفد عام 2006م ردا على مطالبة النوبيين بالعودة لديارهم: «إن النوبة القديمة غرقت، ومن يردها فليبحث عنها أسفل مياه بحيرة ناصر على عمق 90 مترا»، ربما أراد المسؤول البرجماتي أن يصدم النوبيين صدمة إفاقة تنبههم للتعامل مع الواقع، لكنه تعامل بلغة خشنة لم يصل لهم منها إلا «اخبطوا دماغكم في الحيط»، فوقفت اللغة حائلا وحاجزا دون التواصل كما أخبرنا مثال الأغنية في مقدمة المقال.
تحت ضغط هذه الرؤية العنجهية الجهولة لسلطة برجماتية بلا مشاعر قبل ثورة يناير، وفي مواجهة الإصرار الإخواني على نزع مصرية النوبيين تاريخيا بعد يناير، أعلنت جماعة نوبية عن نفسها لأول مرة حركة انفصالية مسلحة، تحت اسم «حركة كتالة النوبية المسلحة»، وظهر ممثل للحركة علنا في التليفزيون، وأسست الحركة التي تعني «القتال» صفحة رسمية على الفيس بوك، وهي صفحة تتبنى في مضمونها ولغتها أسلوبا تحريضيا فجا، يتضمن في كثير من الأحيان جهلا بالقضية النوبية ومفرداتها، وتصاعدت وتيرة هذا التحريض مع أحداث الفتنة الأخيرة، لكن المدقق يمكنه أن يكتشف بسهولة أن هذه الحركة مخترقة من جهات غير نوبية لإشعال الفتنة، فليس من المنطقي مثلا أن يخطئ نوبي ويعتبر أن «دابود» قبيلة في حين أنها قرية كبيرة، يعتبرونها عاصمة النوبة الشمالية، لكنها ليست قبيلة، ولا توجد قبيلة أصلا بهذا الاسم، كما أن الكثير من شباب النوبة سارعوا بتأسيس صفحات يتبرأون فيها من هذه الصفحة ويعتبرونها مدسوسة عليهم، وفتحوا في مواجهتها صفحات بعناوين مثل: «النوبة تتصدر لحركة كتالة - معا لمحاربة الفساد في النوبة»، «كلنا ضد حركة كتالة بالقانون»، بل هاجم الكثير من النوبيين الأهداف الخفية لحركة كتالا على صفحتها نفسها، وأذكر أن الدكتورة منال الطيبي (ناشطة حقوقية نوبية استقالت من لجنة الدستور أثناء حكم مرسي) قالت تعليقا على هذه الحركة: «مش أي حد يعمل جروب علي الفيس بوك نعتبره تنظيم. هم مجموعة من الشباب غير المسؤول يعني مجرد فتح بق»، وأوضحت الطيبي أن النوبيين يطالبون بحقوقهم كمصريين وإذا تحققت مطالب كل المصريين تحققت مطالب النوبيين»، وفي نفس الاتجاه لم يعترف الحقوقي النوبي منير بشير (رئيس الجمعية النوبية للمحامين) بوجود حقيقي لهذه الحركة على الأرض مرجحا أن مثل هذه الدعاوى عن حركات انفصالية مسلحة هو نوع من الصراخ بالشكوى والضغط على الدولة للالتفات للنوبيين وعدم تهميشهم في الحياة الاجتماعية والتمثيل السياسي الذي يعبر عنهم، لكن بشير أردف تصريحه حينذاك بتجذير مهم، قال فيه إن «حركة كتالا» لا تمثل أهالي النوبة فهم بطبيعتهم سلميون ويرفضون العنف، لكن مع استمرار التهميش والإهمال للنوبيين لا نستبعد أي شيء، وهذا يذكرني بتصريح قديم للأديب حجاج أدول بعد عودته من مؤتمر واشنطن، وعتاب بعض الصحفيين له في الإسكندرية على وضع النوبة ضمن أجندة الغرب المريبة، وحينها كانت الضجة المصاحبة لتنظيم مؤتمر الأقليات بمعرفة الدكتور سعد الدين إبراهيم، فقال أدول للصحفيين: «لا تخافوا مني.. خافوا من أولادي الصغار»، وهو تحذير مهذب حاول من خلاله أدول أن يعيد صياغة العبارة التي تضمنتها ورقته أمام مؤتمر واشنطن والتي تحدث فيها بلغة انفصالية عن «الشمال المغتصب»، ومهددا في عاصمة العم سام: «إننا إذا لم ننل حقوقنا كاملة فسوف نقوم بانتزاعها بلا مهادنة ولا تنازل».
فهل ربى أدول (وكل أدول) أولاده من الأجيال الجديدة بهذه الروح العدوانية البعيدة عن روح وثقافة وسماحة النوبي الأصيل؟ هل تشوهت سمات الشخصية النوبية وأصيبت بالارتباك والارتياب جراء الهجرات العشوائية والاحتكاك والتلاقح غير المخطط مع الآخرين؟
السؤال مطروح، ومحاولة الإجابة يوم الثلاثاء المقبل.
فتنة أسوان – الجذور والذرائع (2)
هل تريدون فعلا معرفة جذور الفتنة المشتعلة في أسوان؟
بسيطة، اقرأوا هذه الكلمات:
«أباياسا/ أبا هيسكنا/ وشوستا ريلي نايا/ نوبه وومه نيلي كو/ شورتين تول
كونو سوتو/ كافا البلا وكين جيرا».
هل فهمتم الموضوع؟ هل مست هذه المشاعر وجدانكم؟ هل ذرف أحدكم دمعة تعاطف مع هذا الوجع؟
طبعا لا، ليس لأنكم جاحدون (لا سمح الله) أو بلا مشاعر، لكن فقط لأنكم لم تفهموا هذه الكلمات، ولم تعرفوا قصتها.
المشكلة إذن في الفهم ومدى التواصل، فأنتم لا تعرفون معاني هذه الكلمات النوبية التي غناها محمد منير. برغم أن معظمكم ربما قد سمعها ورددها، كما يردد «سية .. سية ووسية» أو «الله لون يالون»، أو «شمندورة منجنا»، أو «نيجرييه»، لكن الكلمات لم تذهب أبعد من أذنكم ولم تصل إلى القلب أو العقل، وهذا ما يجعلنا أحيانا نرتكب جريمة الرقص على إيقاعات الحزن والفجيعة التي تسكن أعماق إخوتنا في الدين أو الوطن!
الكلمات نفسها تقول باللغة العربية:
«ترى هل سيكون فى وسعنا/ أن ننسى وكأن شيئًا لم يحدث/ يا نوبة يا موطن الجميع وحبهم الكبير/ مكانك فى القلب/ لا وألف لا/ اصرف عنا البلاء يارب».
البلاء الذي تتحدث عنه الأغنية ليس له أي علاقة بجرائم القتل ومشاعر الثأر والانتقام التي تلوث منذ أيام وجه الأمان والسماحة في بلاد الذهب، فهي تتحدث عن وجع الغربة والحنين للوطن الغارق تحت مياه النيل، وهذا الوطن هو المأساة العميقة المحفورة في وجدان كل نوبي، حتى الذي ولد وعاش في القاهرة أو الإسكندرية بعيدا عن الوطن الأم جنوب السد العالي، فالنوبي يحمل وطنه أينما ذهب، ويحلم باسترداده مهما ابتعد، ولن تهدأ روحه حتى يعود ليزرع ويحصد ويرقص ويغني ويحب في أحضان النيل.
وكنا في المقال السابق قد تحدثنا عن الشتات الهلالي باعتباره اختيارا للبحث عن بطولة، أو هربا من صراع مع سلطة، أو غراما باستكمال أمجاد أبوزيد وذياب بن غانم والزناتي خليفة، أو حتى لاستطابة الترحال حسب قول الشاعر «لذة العيش في التنقل»، أو «يفوز باللذات كل مغامر»، لكن الشتات النوبي ليس اختيارا أبدا، بل هو اضطرار أشبه باللعنة القدرية، وتيه أوديسي فرضته ظروف مختلفة تنوعت بين السياسي والاقتصادي والجغرافي، لكن النوبي لم يعترف أبدا بهذه الظروف، ولم يستسلم أبدا للتيه، ويشعر بأن بيته وأرضه ينتظرانه كما تنتظر بينلوبي زوجها التائه في البحار، فالحياة عند النوبي تبدأ وتنتهي داخل حضن الوطن بكل ما يحمله من مفردات الثقافة والفن، والعادات والتقاليد، وطبيعة العمل، والعلاقات بين الأفراد، لذلك ظل النوبي محافظا على طابعه دون تعارض مع المحيط الحضاري الذي يعيش فيه، فهو يتكلم العربية ويحتفظ بلغته النوبية، يعيش مع الآخرين لكنه يبني بطريقته، ويتزوج بطريقته، ويغني بطريقته، في أجواء من الطيبة والسماحة والمرح وعدم الميل للعنف.
ما الذي حدث إذن ليتورط هذا النوبي الذي نعرفه في كل هذا الدم، ويقدم نوعا من الخطاب الانتقامي الغريب على طبيعته ومفردات لغته؟
لم أتوقف بخوف عند مفردات الحنين في أغاني النوبة، ولا لغة العتاب من التجاهل التي أشهرها محمد خليل قاسم في رواية «الشمندورة»، أو حتى في أعمال حسن نور، وإدريس علي، وحجاج أدول وغيرهم، ولا حتى من تصريحات الغضب ضد الدولة على ألسنة الناشطين النوبيين، لكنني بدأت أخشى من تحول هذه المشاعر النبيلة إلى نزوع انفصالي بعد أن طالعت بيانا لممثلي النوبة في المؤتمر الثاني للأقباط الذي عقد في واشنطن نهاية عام 2005، ثم تلقف عدد من المنظمات ونواب الكونجرس الأمريكي لهذا الخيط بسرعة، في محاولة لوضع فكرة الوطن النوبي الخاص (نوبت) في مواجهة وتعارض مع الوطن الأشمل (مصر)، وعقب ثورة يناير وتولي الإخوان الحكم، انفلتت المخاوف والهواجس النوبية، كرد فعل على تصريحات جاهلة وغير مسؤولة من قيادات الجماعة، وعلى رأسهم الرئيس محمد مرسي الذي وصف النوبيين في أول خطاباته بأنهم «جالية»، كما وصفهم نائب رئيس الحزب الحاكم حينذاك عصام العريان بأنهم «غزاة» و«بقايا الهكسوس في مصر»، ووصفهم القيادي الإخواني حسين عبدالقادر بأنهم من الأمازيج وقبائل البربر في الصحراء الكبرى.
وحتى لا نرمي المشكلة على الإخوان وحدهم، أستعيد تصريحا قديما لمحافظ أسوان الأسبق اللواء سمير يوسف قال فيه لجريدة الوفد عام 2006م ردا على مطالبة النوبيين بالعودة لديارهم: «إن النوبة القديمة غرقت، ومن يردها فليبحث عنها أسفل مياه بحيرة ناصر على عمق 90 مترا»، ربما أراد المسؤول البرجماتي أن يصدم النوبيين صدمة إفاقة تنبههم للتعامل مع الواقع، لكنه تعامل بلغة خشنة لم يصل لهم منها إلا «اخبطوا دماغكم في الحيط»، فوقفت اللغة حائلا وحاجزا دون التواصل كما أخبرنا مثال الأغنية في مقدمة المقال.
تحت ضغط هذه الرؤية العنجهية الجهولة لسلطة برجماتية بلا مشاعر قبل ثورة يناير، وفي مواجهة الإصرار الإخواني على نزع مصرية النوبيين تاريخيا بعد يناير، أعلنت جماعة نوبية عن نفسها لأول مرة حركة انفصالية مسلحة، تحت اسم «حركة كتالة النوبية المسلحة»، وظهر ممثل للحركة علنا في التليفزيون، وأسست الحركة التي تعني «القتال» صفحة رسمية على الفيس بوك، وهي صفحة تتبنى في مضمونها ولغتها أسلوبا تحريضيا فجا، يتضمن في كثير من الأحيان جهلا بالقضية النوبية ومفرداتها، وتصاعدت وتيرة هذا التحريض مع أحداث الفتنة الأخيرة، لكن المدقق يمكنه أن يكتشف بسهولة أن هذه الحركة مخترقة من جهات غير نوبية لإشعال الفتنة، فليس من المنطقي مثلا أن يخطئ نوبي ويعتبر أن «دابود» قبيلة في حين أنها قرية كبيرة، يعتبرونها عاصمة النوبة الشمالية، لكنها ليست قبيلة، ولا توجد قبيلة أصلا بهذا الاسم، كما أن الكثير من شباب النوبة سارعوا بتأسيس صفحات يتبرأون فيها من هذه الصفحة ويعتبرونها مدسوسة عليهم، وفتحوا في مواجهتها صفحات بعناوين مثل: «النوبة تتصدر لحركة كتالة - معا لمحاربة الفساد في النوبة»، «كلنا ضد حركة كتالة بالقانون»، بل هاجم الكثير من النوبيين الأهداف الخفية لحركة كتالا على صفحتها نفسها، وأذكر أن الدكتورة منال الطيبي (ناشطة حقوقية نوبية استقالت من لجنة الدستور أثناء حكم مرسي) قالت تعليقا على هذه الحركة: «مش أي حد يعمل جروب علي الفيس بوك نعتبره تنظيم. هم مجموعة من الشباب غير المسؤول يعني مجرد فتح بق»، وأوضحت الطيبي أن النوبيين يطالبون بحقوقهم كمصريين وإذا تحققت مطالب كل المصريين تحققت مطالب النوبيين»، وفي نفس الاتجاه لم يعترف الحقوقي النوبي منير بشير (رئيس الجمعية النوبية للمحامين) بوجود حقيقي لهذه الحركة على الأرض مرجحا أن مثل هذه الدعاوى عن حركات انفصالية مسلحة هو نوع من الصراخ بالشكوى والضغط على الدولة للالتفات للنوبيين وعدم تهميشهم في الحياة الاجتماعية والتمثيل السياسي الذي يعبر عنهم، لكن بشير أردف تصريحه حينذاك بتجذير مهم، قال فيه إن «حركة كتالا» لا تمثل أهالي النوبة فهم بطبيعتهم سلميون ويرفضون العنف، لكن مع استمرار التهميش والإهمال للنوبيين لا نستبعد أي شيء، وهذا يذكرني بتصريح قديم للأديب حجاج أدول بعد عودته من مؤتمر واشنطن، وعتاب بعض الصحفيين له في الإسكندرية على وضع النوبة ضمن أجندة الغرب المريبة، وحينها كانت الضجة المصاحبة لتنظيم مؤتمر الأقليات بمعرفة الدكتور سعد الدين إبراهيم، فقال أدول للصحفيين: «لا تخافوا مني.. خافوا من أولادي الصغار»، وهو تحذير مهذب حاول من خلاله أدول أن يعيد صياغة العبارة التي تضمنتها ورقته أمام مؤتمر واشنطن والتي تحدث فيها بلغة انفصالية عن «الشمال المغتصب»، ومهددا في عاصمة العم سام: «إننا إذا لم ننل حقوقنا كاملة فسوف نقوم بانتزاعها بلا مهادنة ولا تنازل».
فهل ربى أدول (وكل أدول) أولاده من الأجيال الجديدة بهذه الروح العدوانية البعيدة عن روح وثقافة وسماحة النوبي الأصيل؟ هل تشوهت سمات الشخصية النوبية وأصيبت بالارتباك والارتياب جراء الهجرات العشوائية والاحتكاك والتلاقح غير المخطط مع الآخرين؟
السؤال مطروح، ومحاولة الإجابة يوم الثلاثاء المقبل.
فتنة أسوان – الجذور والذرائع (2)
هل تريدون فعلا معرفة جذور الفتنة المشتعلة في أسوان؟
بسيطة، اقرأوا هذه الكلمات:
«أباياسا/ أبا هيسكنا/ وشوستا ريلي نايا/ نوبه وومه نيلي كو/ شورتين تول
كونو سوتو/ كافا البلا وكين جيرا».
هل فهمتم الموضوع؟ هل مست هذه المشاعر وجدانكم؟ هل ذرف أحدكم دمعة تعاطف مع هذا الوجع؟
طبعا لا، ليس لأنكم جاحدون (لا سمح الله) أو بلا مشاعر، لكن فقط لأنكم لم تفهموا هذه الكلمات، ولم تعرفوا قصتها.
المشكلة إذن في الفهم ومدى التواصل، فأنتم لا تعرفون معاني هذه الكلمات النوبية التي غناها محمد منير. برغم أن معظمكم ربما قد سمعها ورددها، كما يردد «سية .. سية ووسية» أو «الله لون يالون»، أو «شمندورة منجنا»، أو «نيجرييه»، لكن الكلمات لم تذهب أبعد من أذنكم ولم تصل إلى القلب أو العقل، وهذا ما يجعلنا أحيانا نرتكب جريمة الرقص على إيقاعات الحزن والفجيعة التي تسكن أعماق إخوتنا في الدين أو الوطن!
الكلمات نفسها تقول باللغة العربية:
«ترى هل سيكون فى وسعنا/ أن ننسى وكأن شيئًا لم يحدث/ يا نوبة يا موطن الجميع وحبهم الكبير/ مكانك فى القلب/ لا وألف لا/ اصرف عنا البلاء يارب».
البلاء الذي تتحدث عنه الأغنية ليس له أي علاقة بجرائم القتل ومشاعر الثأر والانتقام التي تلوث منذ أيام وجه الأمان والسماحة في بلاد الذهب، فهي تتحدث عن وجع الغربة والحنين للوطن الغارق تحت مياه النيل، وهذا الوطن هو المأساة العميقة المحفورة في وجدان كل نوبي، حتى الذي ولد وعاش في القاهرة أو الإسكندرية بعيدا عن الوطن الأم جنوب السد العالي، فالنوبي يحمل وطنه أينما ذهب، ويحلم باسترداده مهما ابتعد، ولن تهدأ روحه حتى يعود ليزرع ويحصد ويرقص ويغني ويحب في أحضان النيل.
وكنا في المقال السابق قد تحدثنا عن الشتات الهلالي باعتباره اختيارا للبحث عن بطولة، أو هربا من صراع مع سلطة، أو غراما باستكمال أمجاد أبوزيد وذياب بن غانم والزناتي خليفة، أو حتى لاستطابة الترحال حسب قول الشاعر «لذة العيش في التنقل»، أو «يفوز باللذات كل مغامر»، لكن الشتات النوبي ليس اختيارا أبدا، بل هو اضطرار أشبه باللعنة القدرية، وتيه أوديسي فرضته ظروف مختلفة تنوعت بين السياسي والاقتصادي والجغرافي، لكن النوبي لم يعترف أبدا بهذه الظروف، ولم يستسلم أبدا للتيه، ويشعر بأن بيته وأرضه ينتظرانه كما تنتظر بينلوبي زوجها التائه في البحار، فالحياة عند النوبي تبدأ وتنتهي داخل حضن الوطن بكل ما يحمله من مفردات الثقافة والفن، والعادات والتقاليد، وطبيعة العمل، والعلاقات بين الأفراد، لذلك ظل النوبي محافظا على طابعه دون تعارض مع المحيط الحضاري الذي يعيش فيه، فهو يتكلم العربية ويحتفظ بلغته النوبية، يعيش مع الآخرين لكنه يبني بطريقته، ويتزوج بطريقته، ويغني بطريقته، في أجواء من الطيبة والسماحة والمرح وعدم الميل للعنف.
ما الذي حدث إذن ليتورط هذا النوبي الذي نعرفه في كل هذا الدم، ويقدم نوعا من الخطاب الانتقامي الغريب على طبيعته ومفردات لغته؟
لم أتوقف بخوف عند مفردات الحنين في أغاني النوبة، ولا لغة العتاب من التجاهل التي أشهرها محمد خليل قاسم في رواية «الشمندورة»، أو حتى في أعمال حسن نور، وإدريس علي، وحجاج أدول وغيرهم، ولا حتى من تصريحات الغضب ضد الدولة على ألسنة الناشطين النوبيين، لكنني بدأت أخشى من تحول هذه المشاعر النبيلة إلى نزوع انفصالي بعد أن طالعت بيانا لممثلي النوبة في المؤتمر الثاني للأقباط الذي عقد في واشنطن نهاية عام 2005، ثم تلقف عدد من المنظمات ونواب الكونجرس الأمريكي لهذا الخيط بسرعة، في محاولة لوضع فكرة الوطن النوبي الخاص (نوبت) في مواجهة وتعارض مع الوطن الأشمل (مصر)، وعقب ثورة يناير وتولي الإخوان الحكم، انفلتت المخاوف والهواجس النوبية، كرد فعل على تصريحات جاهلة وغير مسؤولة من قيادات الجماعة، وعلى رأسهم الرئيس محمد مرسي الذي وصف النوبيين في أول خطاباته بأنهم «جالية»، كما وصفهم نائب رئيس الحزب الحاكم حينذاك عصام العريان بأنهم «غزاة» و«بقايا الهكسوس في مصر»، ووصفهم القيادي الإخواني حسين عبدالقادر بأنهم من الأمازيج وقبائل البربر في الصحراء الكبرى.
وحتى لا نرمي المشكلة على الإخوان وحدهم، أستعيد تصريحا قديما لمحافظ أسوان الأسبق اللواء سمير يوسف قال فيه لجريدة الوفد عام 2006م ردا على مطالبة النوبيين بالعودة لديارهم: «إن النوبة القديمة غرقت، ومن يردها فليبحث عنها أسفل مياه بحيرة ناصر على عمق 90 مترا»، ربما أراد المسؤول البرجماتي أن يصدم النوبيين صدمة إفاقة تنبههم للتعامل مع الواقع، لكنه تعامل بلغة خشنة لم يصل لهم منها إلا «اخبطوا دماغكم في الحيط»، فوقفت اللغة حائلا وحاجزا دون التواصل كما أخبرنا مثال الأغنية في مقدمة المقال.
تحت ضغط هذه الرؤية العنجهية الجهولة لسلطة برجماتية بلا مشاعر قبل ثورة يناير، وفي مواجهة الإصرار الإخواني على نزع مصرية النوبيين تاريخيا بعد يناير، أعلنت جماعة نوبية عن نفسها لأول مرة حركة انفصالية مسلحة، تحت اسم «حركة كتالة النوبية المسلحة»، وظهر ممثل للحركة علنا في التليفزيون، وأسست الحركة التي تعني «القتال» صفحة رسمية على الفيس بوك، وهي صفحة تتبنى في مضمونها ولغتها أسلوبا تحريضيا فجا، يتضمن في كثير من الأحيان جهلا بالقضية النوبية ومفرداتها، وتصاعدت وتيرة هذا التحريض مع أحداث الفتنة الأخيرة، لكن المدقق يمكنه أن يكتشف بسهولة أن هذه الحركة مخترقة من جهات غير نوبية لإشعال الفتنة، فليس من المنطقي مثلا أن يخطئ نوبي ويعتبر أن «دابود» قبيلة في حين أنها قرية كبيرة، يعتبرونها عاصمة النوبة الشمالية، لكنها ليست قبيلة، ولا توجد قبيلة أصلا بهذا الاسم، كما أن الكثير من شباب النوبة سارعوا بتأسيس صفحات يتبرأون فيها من هذه الصفحة ويعتبرونها مدسوسة عليهم، وفتحوا في مواجهتها صفحات بعناوين مثل: «النوبة تتصدر لحركة كتالة - معا لمحاربة الفساد في النوبة»، «كلنا ضد حركة كتالة بالقانون»، بل هاجم الكثير من النوبيين الأهداف الخفية لحركة كتالا على صفحتها نفسها، وأذكر أن الدكتورة منال الطيبي (ناشطة حقوقية نوبية استقالت من لجنة الدستور أثناء حكم مرسي) قالت تعليقا على هذه الحركة: «مش أي حد يعمل جروب علي الفيس بوك نعتبره تنظيم. هم مجموعة من الشباب غير المسؤول يعني مجرد فتح بق»، وأوضحت الطيبي أن النوبيين يطالبون بحقوقهم كمصريين وإذا تحققت مطالب كل المصريين تحققت مطالب النوبيين»، وفي نفس الاتجاه لم يعترف الحقوقي النوبي منير بشير (رئيس الجمعية النوبية للمحامين) بوجود حقيقي لهذه الحركة على الأرض مرجحا أن مثل هذه الدعاوى عن حركات انفصالية مسلحة هو نوع من الصراخ بالشكوى والضغط على الدولة للالتفات للنوبيين وعدم تهميشهم في الحياة الاجتماعية والتمثيل السياسي الذي يعبر عنهم، لكن بشير أردف تصريحه حينذاك بتجذير مهم، قال فيه إن «حركة كتالا» لا تمثل أهالي النوبة فهم بطبيعتهم سلميون ويرفضون العنف، لكن مع استمرار التهميش والإهمال للنوبيين لا نستبعد أي شيء، وهذا يذكرني بتصريح قديم للأديب حجاج أدول بعد عودته من مؤتمر واشنطن، وعتاب بعض الصحفيين له في الإسكندرية على وضع النوبة ضمن أجندة الغرب المريبة، وحينها كانت الضجة المصاحبة لتنظيم مؤتمر الأقليات بمعرفة الدكتور سعد الدين إبراهيم، فقال أدول للصحفيين: «لا تخافوا مني.. خافوا من أولادي الصغار»، وهو تحذير مهذب حاول من خلاله أدول أن يعيد صياغة العبارة التي تضمنتها ورقته أمام مؤتمر واشنطن والتي تحدث فيها بلغة انفصالية عن «الشمال المغتصب»، ومهددا في عاصمة العم سام: «إننا إذا لم ننل حقوقنا كاملة فسوف نقوم بانتزاعها بلا مهادنة ولا تنازل».
فهل ربى أدول (وكل أدول) أولاده من الأجيال الجديدة بهذه الروح العدوانية البعيدة عن روح وثقافة وسماحة النوبي الأصيل؟ هل تشوهت سمات الشخصية النوبية وأصيبت بالارتباك والارتياب جراء الهجرات العشوائية والاحتكاك والتلاقح غير المخطط مع الآخرين؟
السؤال مطروح، ومحاولة الإجابة يوم الثلاثاء المقبل.
فتنة أسوان – الجذور والذرائع (2)
هل تريدون فعلا معرفة جذور الفتنة المشتعلة في أسوان؟
بسيطة، اقرأوا هذه الكلمات:
«أباياسا/ أبا هيسكنا/ وشوستا ريلي نايا/ نوبه وومه نيلي كو/ شورتين تول
كونو سوتو/ كافا البلا وكين جيرا».
هل فهمتم الموضوع؟ هل مست هذه المشاعر وجدانكم؟ هل ذرف أحدكم دمعة تعاطف مع هذا الوجع؟
طبعا لا، ليس لأنكم جاحدون (لا سمح الله) أو بلا مشاعر، لكن فقط لأنكم لم تفهموا هذه الكلمات، ولم تعرفوا قصتها.
المشكلة إذن في الفهم ومدى التواصل، فأنتم لا تعرفون معاني هذه الكلمات النوبية التي غناها محمد منير. برغم أن معظمكم ربما قد سمعها ورددها، كما يردد «سية .. سية ووسية» أو «الله لون يالون»، أو «شمندورة منجنا»، أو «نيجرييه»، لكن الكلمات لم تذهب أبعد من أذنكم ولم تصل إلى القلب أو العقل، وهذا ما يجعلنا أحيانا نرتكب جريمة الرقص على إيقاعات الحزن والفجيعة التي تسكن أعماق إخوتنا في الدين أو الوطن!
الكلمات نفسها تقول باللغة العربية:
«ترى هل سيكون فى وسعنا/ أن ننسى وكأن شيئًا لم يحدث/ يا نوبة يا موطن الجميع وحبهم الكبير/ مكانك فى القلب/ لا وألف لا/ اصرف عنا البلاء يارب».
البلاء الذي تتحدث عنه الأغنية ليس له أي علاقة بجرائم القتل ومشاعر الثأر والانتقام التي تلوث منذ أيام وجه الأمان والسماحة في بلاد الذهب، فهي تتحدث عن وجع الغربة والحنين للوطن الغارق تحت مياه النيل، وهذا الوطن هو المأساة العميقة المحفورة في وجدان كل نوبي، حتى الذي ولد وعاش في القاهرة أو الإسكندرية بعيدا عن الوطن الأم جنوب السد العالي، فالنوبي يحمل وطنه أينما ذهب، ويحلم باسترداده مهما ابتعد، ولن تهدأ روحه حتى يعود ليزرع ويحصد ويرقص ويغني ويحب في أحضان النيل.
وكنا في المقال السابق قد تحدثنا عن الشتات الهلالي باعتباره اختيارا للبحث عن بطولة، أو هربا من صراع مع سلطة، أو غراما باستكمال أمجاد أبوزيد وذياب بن غانم والزناتي خليفة، أو حتى لاستطابة الترحال حسب قول الشاعر «لذة العيش في التنقل»، أو «يفوز باللذات كل مغامر»، لكن الشتات النوبي ليس اختيارا أبدا، بل هو اضطرار أشبه باللعنة القدرية، وتيه أوديسي فرضته ظروف مختلفة تنوعت بين السياسي والاقتصادي والجغرافي، لكن النوبي لم يعترف أبدا بهذه الظروف، ولم يستسلم أبدا للتيه، ويشعر بأن بيته وأرضه ينتظرانه كما تنتظر بينلوبي زوجها التائه في البحار، فالحياة عند النوبي تبدأ وتنتهي داخل حضن الوطن بكل ما يحمله من مفردات الثقافة والفن، والعادات والتقاليد، وطبيعة العمل، والعلاقات بين الأفراد، لذلك ظل النوبي محافظا على طابعه دون تعارض مع المحيط الحضاري الذي يعيش فيه، فهو يتكلم العربية ويحتفظ بلغته النوبية، يعيش مع الآخرين لكنه يبني بطريقته، ويتزوج بطريقته، ويغني بطريقته، في أجواء من الطيبة والسماحة والمرح وعدم الميل للعنف.
ما الذي حدث إذن ليتورط هذا النوبي الذي نعرفه في كل هذا الدم، ويقدم نوعا من الخطاب الانتقامي الغريب على طبيعته ومفردات لغته؟
لم أتوقف بخوف عند مفردات الحنين في أغاني النوبة، ولا لغة العتاب من التجاهل التي أشهرها محمد خليل قاسم في رواية «الشمندورة»، أو حتى في أعمال حسن نور، وإدريس علي، وحجاج أدول وغيرهم، ولا حتى من تصريحات الغضب ضد الدولة على ألسنة الناشطين النوبيين، لكنني بدأت أخشى من تحول هذه المشاعر النبيلة إلى نزوع انفصالي بعد أن طالعت بيانا لممثلي النوبة في المؤتمر الثاني للأقباط الذي عقد في واشنطن نهاية عام 2005، ثم تلقف عدد من المنظمات ونواب الكونجرس الأمريكي لهذا الخيط بسرعة، في محاولة لوضع فكرة الوطن النوبي الخاص (نوبت) في مواجهة وتعارض مع الوطن الأشمل (مصر)، وعقب ثورة يناير وتولي الإخوان الحكم، انفلتت المخاوف والهواجس النوبية، كرد فعل على تصريحات جاهلة وغير مسؤولة من قيادات الجماعة، وعلى رأسهم الرئيس محمد مرسي الذي وصف النوبيين في أول خطاباته بأنهم «جالية»، كما وصفهم نائب رئيس الحزب الحاكم حينذاك عصام العريان بأنهم «غزاة» و«بقايا الهكسوس في مصر»، ووصفهم القيادي الإخواني حسين عبدالقادر بأنهم من الأمازيج وقبائل البربر في الصحراء الكبرى.
وحتى لا نرمي المشكلة على الإخوان وحدهم، أستعيد تصريحا قديما لمحافظ أسوان الأسبق اللواء سمير يوسف قال فيه لجريدة الوفد عام 2006م ردا على مطالبة النوبيين بالعودة لديارهم: «إن النوبة القديمة غرقت، ومن يردها فليبحث عنها أسفل مياه بحيرة ناصر على عمق 90 مترا»، ربما أراد المسؤول البرجماتي أن يصدم النوبيين صدمة إفاقة تنبههم للتعامل مع الواقع، لكنه تعامل بلغة خشنة لم يصل لهم منها إلا «اخبطوا دماغكم في الحيط»، فوقفت اللغة حائلا وحاجزا دون التواصل كما أخبرنا مثال الأغنية في مقدمة المقال.
تحت ضغط هذه الرؤية العنجهية الجهولة لسلطة برجماتية بلا مشاعر قبل ثورة يناير، وفي مواجهة الإصرار الإخواني على نزع مصرية النوبيين تاريخيا بعد يناير، أعلنت جماعة نوبية عن نفسها لأول مرة حركة انفصالية مسلحة، تحت اسم «حركة كتالة النوبية المسلحة»، وظهر ممثل للحركة علنا في التليفزيون، وأسست الحركة التي تعني «القتال» صفحة رسمية على الفيس بوك، وهي صفحة تتبنى في مضمونها ولغتها أسلوبا تحريضيا فجا، يتضمن في كثير من الأحيان جهلا بالقضية النوبية ومفرداتها، وتصاعدت وتيرة هذا التحريض مع أحداث الفتنة الأخيرة، لكن المدقق يمكنه أن يكتشف بسهولة أن هذه الحركة مخترقة من جهات غير نوبية لإشعال الفتنة، فليس من المنطقي مثلا أن يخطئ نوبي ويعتبر أن «دابود» قبيلة في حين أنها قرية كبيرة، يعتبرونها عاصمة النوبة الشمالية، لكنها ليست قبيلة، ولا توجد قبيلة أصلا بهذا الاسم، كما أن الكثير من شباب النوبة سارعوا بتأسيس صفحات يتبرأون فيها من هذه الصفحة ويعتبرونها مدسوسة عليهم، وفتحوا في مواجهتها صفحات بعناوين مثل: «النوبة تتصدر لحركة كتالة - معا لمحاربة الفساد في النوبة»، «كلنا ضد حركة كتالة بالقانون»، بل هاجم الكثير من النوبيين الأهداف الخفية لحركة كتالا على صفحتها نفسها، وأذكر أن الدكتورة منال الطيبي (ناشطة حقوقية نوبية استقالت من لجنة الدستور أثناء حكم مرسي) قالت تعليقا على هذه الحركة: «مش أي حد يعمل جروب علي الفيس بوك نعتبره تنظيم. هم مجموعة من الشباب غير المسؤول يعني مجرد فتح بق»، وأوضحت الطيبي أن النوبيين يطالبون بحقوقهم كمصريين وإذا تحققت مطالب كل المصريين تحققت مطالب النوبيين»، وفي نفس الاتجاه لم يعترف الحقوقي النوبي منير بشير (رئيس الجمعية النوبية للمحامين) بوجود حقيقي لهذه الحركة على الأرض مرجحا أن مثل هذه الدعاوى عن حركات انفصالية مسلحة هو نوع من الصراخ بالشكوى والضغط على الدولة للالتفات للنوبيين وعدم تهميشهم في الحياة الاجتماعية والتمثيل السياسي الذي يعبر عنهم، لكن بشير أردف تصريحه حينذاك بتجذير مهم، قال فيه إن «حركة كتالا» لا تمثل أهالي النوبة فهم بطبيعتهم سلميون ويرفضون العنف، لكن مع استمرار التهميش والإهمال للنوبيين لا نستبعد أي شيء، وهذا يذكرني بتصريح قديم للأديب حجاج أدول بعد عودته من مؤتمر واشنطن، وعتاب بعض الصحفيين له في الإسكندرية على وضع النوبة ضمن أجندة الغرب المريبة، وحينها كانت الضجة المصاحبة لتنظيم مؤتمر الأقليات بمعرفة الدكتور سعد الدين إبراهيم، فقال أدول للصحفيين: «لا تخافوا مني.. خافوا من أولادي الصغار»، وهو تحذير مهذب حاول من خلاله أدول أن يعيد صياغة العبارة التي تضمنتها ورقته أمام مؤتمر واشنطن والتي تحدث فيها بلغة انفصالية عن «الشمال المغتصب»، ومهددا في عاصمة العم سام: «إننا إذا لم ننل حقوقنا كاملة فسوف نقوم بانتزاعها بلا مهادنة ولا تنازل».
فهل ربى أدول (وكل أدول) أولاده من الأجيال الجديدة بهذه الروح العدوانية البعيدة عن روح وثقافة وسماحة النوبي الأصيل؟ هل تشوهت سمات الشخصية النوبية وأصيبت بالارتباك والارتياب جراء الهجرات العشوائية والاحتكاك والتلاقح غير المخطط مع الآخرين؟
السؤال مطروح، ومحاولة الإجابة يوم الثلاثاء المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.