عمارتنا التى لا نظير لها بين عمارات العالم، متينة البناء، فسيحة الأرجاء، عالية الأركان، قليلة الأحزان، تهيمن على أركان العالم الأربعة، تطل على نهر وبحر، وسهل وجبل، وشمس وقمر، وأرض وسماء. يتعجب العابرون من روعة تصميمها وزخارف شرفاتها، يودون أن يبذلوا الروح ليكونوا من سكانها. عمارتنا سيدة العمارات. ورغم التفاوت فى سكّانها بين أغنياء وفقراء، وأقوياء وضعفاء، فقد كانت الحياة فى مجملها طيبة، والسكان سعداء: يشعلون البخور، يسقون الزهور، يزرعون الأمنيات، يحصدون البسمات، نهارهم حبور، وليلهم سرور. ومرت الأيام، تعاقبت الأعوام، وسبحان من له الدوام: مات الآباء، وشاخ الأولاد، وكبر الأحفاد، وتزايد البنون والبنات، لكن العمارة الكبيرة، أمنا الرحيمة، ظلت تحتوينا، وتفسح لنا فى المكان. ............... وفجأة استيقظنا فوجدنا سكان الطابق الأسفل - ومعظمهم من الفقراء - قد تولوا النظارة، وأعلنوا سيطرتهم على شؤون العمارة. داخلتنا الدهشة، أفعمتنا الرهبة، ورحنا نستمع إليهم، بوجوههم الخشنة، الخالية من النضارة. قالوا إنهم يحمون حوزتنا، ويحافظون على عمارتنا، من الدخلاء ومطامع الأعداء. عمارتنا الأبية، المنصورة البهية، لؤلؤة التاج، سيدة الصباح والمساء. استسلمنا للأمر الواقع رغم المضايقات. صاروا يعدون الأنفاس، يفتشون فى الإحساس، دخولنا بميعاد وخروجنا بميعاد، أصبحنا نتحدث همسا ونضحك همسا، وإذا مارسنا الحب مارسناه همسا، خوفا أن يكون من الممنوعات. وحين حاربوا العمارة المجاورة، وقالوا لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، طردوا سكان الطابق الأول إلى سطح البناية بزعم الاستعداد، ورحنا نستمع إلى أهازيج النصر فى الميكروفونات. انهالت القذائف على عمارتنا، تزلزلت سكينتنا، لكن عمارتنا العفية، الصامدة الأبية، صمدت للهول الهائل وبارود الأعداء. ............... وحين تقاتل الشركاء، عرفنا أننا قد هُزمنا. شاهدنا وجوهاً أخرى سيطرت على العمارة، وقالت إنها أنقذتنا وأنقذتها من الهدم والفناء. ومرت أعوام أخرى. طردوا سكان الطابق الثانى إلى السطح، فضاق السطح عليهم، وتشاجروا فيما بينهم، تصادم الفقراء بالفقراء وضاق البؤساء بالبؤساء، ولأول مرة فى عمارتنا سالت الدماء. ............... وتغيرت الدنيا، وتغير شكل العمارة. سالموا أعداء الأمس، وحاربوا سكان العمارة!. كسروا كل شبر فيها، وامتلأت الممرات بالقمامة. انفجرت الماسورة الرئيسية فاختلط الماء بالمجارى وعمت الأوبئة ومرض الأصحاء، كبار السن صاروا يتحسرون على أيامها الماضية، أما الشباب فصاروا يتسللون إلى العمارات المجاورة أو يلقون بأنفسهم من النوافذ على أمل الهروب. تصدعت عمارتنا وظهرت الشروخ فى كل جدار، صارت معرضة للانهيار فى أى لحظة، وأصبح مجرد البقاء بها يهدد الحياة. اختلط الحابل بالنابل، وبدأ الجميع يبحثون عن حل لمشاكل العمارة التى كانت، حتى أمس قريب، سيدة العمارات. اقترح البعض تغيير النظارة، واقترح البعض ترميم العمارة، واقترح البعض مغادرة العمارة. ............... وقال قائل منهم: لقد تأخرتم جدا. لم يعد الترميم الآن ممكنا، لم يعد أمامنا سوى أن نهدم العمارة المتداعية ونعيد البناء من جديد.