عندما رأيت دخان مولوتوف الأمن المركزى يحاصر الأقباط صباح الأربعاء الماضى جاءتنى صور ثلاث: 1- جدتى تجلس على الكنبة البلدى الملاصقة لنافذة بيتنا فى الأزهر. تتربع بجانبها صديقتها «أم مارى» وأمامهما سبرتاية القهوة والصينية التى يرقد فوقها فنجانان وبرطمان القهوة وكوب من الماء البارد. كانت تلك جلستهما المفضلة بعد يوم طويل. حتى فى طفولتى كنت أدرك أن تلك هى جلسة نسائية للفضفضة وتحديد الاستراتيجيات ووضع خطط مواجهة تفاصيل الحياة. تصب كل منهما متاعب اليوم وأوجاع الدنيا فى حجر الأخرى، تتناقشان وتحاولان التوصل إلى حلول فى مشكلات بعينها، وكنت أحب سماع الضحكات التى تصدر عنهما و«أم مارى» بخفة ظلها المعهودة تحكى كيف توسل إليها بائع اللبن والزبادى أن تتوقف عن صنع الزبادى الذى تهديه للجيران بين يوم وآخر «هيتوقف حالنا يا ست أم مارى». أما عن الكعك والبسكويت الذى كانت تخبزه ثم ترصه فوق الصينية النحاس وتدخل به إلينا فى وقفة عيد الفطر فلم أذق فى مثل حلاوته، وكنت أحب حضن «أم مارى» الدافئ المشبع برائحة العجين والفانيليا، أدخل فيه دون استئذان بينما تربت على رأسى وتمسح شعرى بنعومة فأشعر بالأمان، وابتسامة جدى، عالم الأزهر الشريف، تأتينا من صورته فوق الحائط. 2- كانت «شيرى»، إحدى الطالبات التى درست لهن الأدب الإنجليزى، هادئة وذات ابتسامة وديعة تأتى من قلبها رأسا، ورغم خفوت صوتها كان ذهنها متقدا وهى تتابع محاضرات الشعر وتدلى برأيها وتسأل، وعندما تكتب «شيرى» مقالا نقديا تكشف لغتها عن كيان شعرى يتأمل الحياة بعينين طيبتين رغم الوعى بجانبها المظلم. فى سنتها النهائية بالجامعة كتبت لى بضعة سطور مازلت أذكر كيف دفعت بدموع الامتنان إلى عينى، ورغم مرور سنوات على تخرجها فإننى أتذكرها كثيرا، وأحيانا نتهاتف. وعندما أراها أشعر بالسعادة نفسها عندما كانت تزورنى فى السنوات التى درست لها. هل هى براءتها أم العينان اللتان تشعان ذكاء؟ لم أهتم كثيرا أن أفهم سر رباط المحبة الخفى الذى يجمعنا. يكفى أن حضورها يؤكد لى أن الدنيا طيبة وجميلة. 3- عمى نشأت هو توأم أبى. رأيتهما عبر السنين يتشاركان الفرحة ويقتسمان الهم النصف بالنصف. لا يزال يحتفظ بلهجته الصعيدية بفخر، وبحبه لأبناء صاحبه بعد رحيله. سنوات مرض أبى، زياراته المتكررة الطويلة للرعاية الحرجة، الخوف والقلق والألم لآلام أبى، وعمى نشأت دوما هناك. لم يتوان لحظة واحدة عن إحضار دواء أو الحديث مع طبيب أو التواجد جنب صاحبه. أدخل على أبى وهو فوق سرير المستشفى فيقول «عمك نشأت كان هنا»، أو «عمك نشأت قال إنه سيتولى أمر الدواء الناقص فى السوق». بينهما أسرار وحكايات قديمة. بينهما محبة علمتنى كيف يحب الصاحب صاحبه وكيف يمنح بسخاء وكيف يبقى الحب حتى بعد رحيل الحبيب. عندما كان عمى نشأت يتحدث مع رئيس قسم الرعاية الحرجة عن أبى سأله الطبيب «هل أنت قريبه؟». رد قائلا «إنه أخى الذى لم تلده أمى». وكنت أعرف أنه يعنى تماما ما يقول. مع دخان مولوتوف الأمن المركزى الذى حاصر الأقباط صباح الأربعاء الماضى فى أزمة كنيسة العمرانية، رأيت «أم مارى» وشيرى وعمى نشأت. أطرقت رأسى وقلت «أنا آسفة».