ما رأيك أن تصحبنى فى جولة مع الوجوه المصرية، وجوه بنات بلدى الطيبات المكافحات، المعجونة بتراب مصر، المرسومة فى المعابد القديمة، المسبوكة من طمى النيل، من أصل الحب، من تراب البلد، من طرح النهر، من القلل الفخارية، من عود المسك، من ماء الزهر، من رائحة الحقول المحروثة، من زهر القطن وسنابل القمح، من رائحة الناس الطيبين. تعال لتصحبنى فى يوم عادى من أيام حياتى. الصباح فى المستشفى الجامعى الذى أنفقت فيه عمرى. الباب يسلمك إلى ردهة طويلة معتمة، والعنابر تتناثر من حوله. طالعتنى – كما العادة – الوجوه الطيبة. وجوه الممرضات وعاملات النظافة اللواتى يحضرن قبل أى أحد آخر. فى الصباح الباكر - قبيل مجىء الأطباء - يهيمن الحضور النسائى على المستشفى الجامعى. هن كما عهدتهن طيلة حياتى. مكافحات، كادحات، صابرات، قابضات على الجمر. يستيقظن فى السادسة صباحا ليدرن فى ساقية: إعداد الإفطار، الإشراف على ذهاب الأبناء للمدرسة، انتظار الميكروباص ثم الانحشار فيه، الركض قبل موعد التوقيع فى الدفتر، الركض مرة أخرى للعنبر، إبدال الثياب بسرعة، تسلم العهدة وتوزيع العلاج على المرضى، أخذ عينات الدم، المرور مع الأطباء واحتمال كل أنواع التقريع والرغبة المكبوتة فى التعالى، شكوى المرضى.. تعنت المشرفات.. الركض هنا وهناك، فى نهاية اليوم تتحول إلى لبانة تم نزع السكر منها. ليمونة تم عصرها، لكن الجدّ الحقيقى لم يبدأ بعد. نفس الإجراءات السابقة ولكن بطريقة عكسية، الماراثون اليومى للغلبانة الشقيانة منذ أول النهار، الركض صوب دفتر التوقيع، انتظار الميكروباص ثم الانحشار فيه، الإشراف على عودة الأبناء من المدرسة، إعداد الغذاء، ثم غسيل الصحون. مسلسل الشقاء اليومى من غسيل وتنظيف ومذاكرة للبنت والولد والتذكير بمواعيد الدروس، وإعداد طبق حلو حينما يستيقظ (البيه) من نوم العصر، وفض خناقات العيال دون صوت حتى لا يستيقظ من النوم، بعدها يهب للعمل أو للقهوة، ثم يعود جائعا منهكا، فيبدأ دورها بعد إطعامه للقيام بدور الجارية لإرضاء الباشا حتى لا يتزوج غيرها. لابد من الرقص والدلال، والزينة والجمال، إذا ناداها قالت: يا نعم، وإذا أمرها قالت: حاضر يا سيدى. بعدها طعام العشاء ونوم الزوج والأبناء وغسيل الصحون، وإذا تبقى وقت فالنوم المتقطع السريع من أجل صباح آخر مكرر. وكل هذا مقابل لا شىء. مئات معدودة من الجنيهات لا تكفل البقاء حيا. عصور الاستعباد عادت بتوحش، لكن تحت مسميات مختلفة. ■ ■ ■ وحين أشاهدهن أضحك للوجوه الطيبة، تفتر شفتاى عن ابتسامة حقيقية، وعيونى ملؤها المحبة والتقدير. بالنسبة إليهن أنا رئيسهن فى العمل، لكن الحقيقة أننى أنظر إلى أيديهن الخشنة المُكرّمة، التى يحبها الله ورسوله، وأقول فى سرى: هنيئا لكنّ دار الكرامة – إن شاء الله – فى جنات عدن، وسحقا للمتكبرين الظالمين الذين سلبوكن الحق فى الحياة الكريمة دون هذه الطاحونة المرعبة. [email protected]