"كل عام و انت طيب يا حامد افندي.." قالها المدير العام في ترحاب و هو يرحب بباش كاتب المصلحة و اردف قائلا: "و ألف لا بأس عليك يا راجل يا بركة!" أبتسم حامد افندي و هو يقول بود: "ممنون ليك يا سعادة البيه.. كان دور برد بسيط و الحمد لله.." تساءل المدير قائلا: "و يا هل تري رحت الوحدة الصحية تكشف ولا لأ؟" ضحك حامد افندي و هو يسعل قائلا: "شوية برد بسيط.. ربنا ما يودينا عتبة الحكماء.." نهض المدير و هو يقول: "و الله و هتوحشنا يا حامد افندي.." اجاب حامد افندي باقتضاب : "ما تشوفش وحش يا سعادة البيه.." ثم أسرع حامد أفندي بالخروج حتى لا يضطر للاستطراد في هذه النقطة وذهب إلى مكتبه مسرعاً وكان الموظفون والساعي يلاحقونه بعبارات مثل: "كدة هاتسيبنا يا بركة.." "حتى لو هتلر مسك المصلحة.. لزما نشوفك!" "الايام بتجري ولا المجري.." "و ورق المعاش خلص.." "هاتزورنا و لا مانتاش.." هاو هاو انتبهت حواس حامد افندي عند الصوت الاخير.. كان الرجل أمينا دقيقاً.. يعمل بجد طوال ايام و سنوات.. كانت وظيفته باش كاتب المصلحة.. المصلحة التي تقع داخل احد أرياف مصر.. كان كل شئ جيدا في حياته الساكنة.. إلا شئ واحد.. هاو هاو!!! الكلاب الضالة التي تمرح بسهولة داخل أرض المصلحة بمنتهى الحرية.. دون أي رقيب او حسيب.. كان يهشها بعصاه.. أكثر موظف يكره هذه الكائنات.. النابحة.. و.. "حامد افندي.. حامد افندي.. الكلبة ولدت!!" عاد الرجل بذكرياته إلى الصوت الصاخب لإسماعيل الساعى بهتافه الباش بولادة الكلبة.. كان في أسابيعه الاولى في عمله.. منذ خمس و ثلاثين سنة.. أرتجف حامد اقندي على هذا الهتاف وأسرع بعصاته حيث الكلبة والجراء ليهشهم بعيدا.. كانت الكلبة شجاعة فزمجرت.. تراجع.. حانقا.. "توقيعك على المخالصة يا حامد افندي.." افاق الرجل من ذكرياته ليطالع وجه اسماعيل الحزين و يده الممدودة بمجموعة اوراق تناولها حامد افندي في استسلام و يوقعها في دقة و يتساءل بقوله: "عندك ورق تاني يا اسماعيل؟" اجاب اسماعيل في حزن: "بعون الله الساركي هيبعتوه من المديرية العمومية في البوسطة.." اومأ حامد افندي براسه متفهما و استطرد اسماعيل بقوله: "هتوحشنا يا راجل يا طيب.." قام حامد افندي من مكتبه و لملم بعض الاوراق و يغادر مكتبه للمرة الاخيرة و يجتر ذكرياته في المصلحة التي افنى فيها شبابه.. كان الجميع يودعونه بحرارة و يتجاذبون معه احاديث كثيرة و يتذكرون معه بغضه الشديد للكلاب التي تقطن ارض المصلحة و عصاته الشهيرة التي لم تكن تفيد كثيرا و دقته في وظيفته و امانته مع.. هاو هاو!!! نبحت الكلاب فجاة وسط هذه الشاعر مما ازعج الرجل فانطلق كعادته بعصاته يهشهم حتى خرج من المصلحة وسط ضحكات الجميع.. ******* "البنت اخبارها ايه؟" تساءل حامد افندي و هو يضع قدميه وسط الماء و الملح و اتت زوجته من الداخل و معها المنشفة و تقول "قصدك شكرية؟" اجاب في حدة: "هو فيه غيرها يا زينب؟" قالت زوجته و هي تتفهم مزاجه الحاد يوم احالته على المعاش: "الحمد لله.. الحرارة نزلت.." قال الرجل بنبرة اعتذارية: "لا مؤاخذة يا زينب.. اصلي متضايق شوية.." تجاهلت زينب قوله بحنكة انثوية و تساءلت: "يا سي حامد انت بقالك اشي اسبوع و اكتر و الساركي ماوصلش من المديرية العمومية.." تنهد الرجل و هو يقول: "بمشيئة الرحمن هاروح المصلحة.." و اردف في جذل: "من النجمة.." ******* استيقظ الرجل في السادسة و النصف صباحا و استعد للذهاب الى المصلحة للاستفسار عن ساركي المعاش و شعر بارتياح و سعادة حتى انه تعمد ان يذهب و كانه مازال موظفا ملتزما بالمواعيد الرسمية.. دخل المصلحة و صاحت الكلاب حوله بنباحها.. كانت كلاب بلدي ضالة تحيا في ارض المصلحة.. و كانت بحكم اقامتها تعرف الموظفين من الغرباء.. غضب الرجل قليلا ثم ذهب الى زملائه لتحيتهم.. الصدمة ثقيلة ثقيلة.. "روح اسال المدير.." "اسماعيل.. انت مش فاكرني.." "حامد افندي!! انت لسه عايش؟!!" "الساركي؟.. ساركي ايه؟!!" "البوسطة وصلت من زمان.." "و لا حتى تلفون؟!!" "كان لزما تشيعولي مرسال.." "بلغوني.." "الدنيا تلاهي يا راجل.." "امسك الساركي.." "وقعت بالاستلام؟.." "مستني ليه تاني.." "انت بتبص لنا كده ليه؟.." "مالك يا حامد افندي؟.." "الف لا باس عليك.." "على البيت طوالي علشان ترتاح.." خرج الرجل من المصلحة مصدوما.. كانت خطواته بطيئة متثاقلة.. هاو.. هاو.. صاحت الكلاب حوله بنباحها.. خذلته يداه من الصدمة عن ان يرفع عصاته تجاهها.. اقتربت منه بحذر.. الكلاب!! تداعبه!! تودعه!! و صوت نباحها مختلط.. زمجرة.. نباح عال.. غمغمة.. اندهش حامد افندي و هو يحاول استيعاب الموقف.. تبسم الرجل وسط حزنه و توقف ناظرا الى الكلاب و يقول.. اشكركم. د.باسم مراد الصواف. www.sawwaf.com