بعضُ الأمنيات يتحقق أحياناً بطريقة مدهشة، ذلك ما تأكدت منه أثناء زيارتى إلى ليبيا لتغطية القمة العربية!.. يعرف المقربون من أصدقائى أننى كنت أحلم بالعيش فى ستينيات القرن الماضى، ويدركون مدى حنينى إلى تلك الفترة!.. للأسف لم يخترع أحدٌ حتى الآن عجلة الزمن، لذا أكتفى، حين يسمح الوقت، بمشاهدة «روتانا زمان»، وأحلق فى الخيال مع أفلام عمر الشريف وفاتن حمامة وحفلات أم كلثوم وعبدالحليم حافظ، أو أقتنص من «اليوتيوب» لقطات تسجيلية لعبدالناصر وخروتشوف!.. قبل اثنين وعشرين عاماً اقتربت من الحلم بالرحيل إلى موسكو، لكن الرفيق جورباتشوف لم يسمح لى سوى بحضور دفن الاتحاد السوفيتى على أنغام توزيع جديد لنشيد الأممية! خلال الأيام القليلة الماضية لم أكن بحاجة إلى روتانا أو يوتيوب، فقد عدت إلى فترة الستينيات عن طريق مطار طرابلس العالمى!..استقبلتنى شعارات ثورية وصور متنوعة للزعيم الليبى معمر القذافى، إلى جانب مقتطفات من كتابه الأخضر!.. بدت لى شوارع المدينة الوديعة وكأنها قفزت للتو من أفلام تلك الفترة.. لا ماكدونالدز ولا كنتاكى، لا إعلانات لعضلات عمرو دياب ولا صور لشعر صدر تامر حسنى.. لا عشوائيات ولا ناطحات سحاب، بل بنايات يريح طرازها المعمارى النفس والعين! كانت وجهتنا الأساسية «سرت»، مسقط رأس القذافى التى أرادها مكانا للقمة العربية، وكان له ما أراد!.. استطاع القائمون على التنظيم تجاوز المشكلات اللوجستية التى تسبب فيها نقلُ القمة من طرابلس.. تباروا فى تقديم المساعدة للصحفيين داخل مركز إعلامى مجهز بكل الإمكانات اللازمة.. حتى مشكلة الإقامة تغلب عليها الليبيون باستئجار باخرة وتحويلها إلى فندق!..حين قارن بعض الزملاء بين ما لمسوه فى سرت وما عاشوه مرات عديدة فى شرم الشيخ جاءت المقارنة فى صالح المدينة الليبية! وكما فى طرابلس، هَبَّتْ على سرت رائحةُ الأيام الخوالى.. شاشاتٌ عملاقة تبث بشكل متواصل أغنية عبد الحليم (بركان الغضب) بالتبادل مع نشيد «الله أكبر فوق كيد المعتدى» الذى هو نفسه السلام الوطنى الليبى، فيما تعرض بينهما مقاطعَ من خطب حماسية لعبدالناصر والقذافى! فى الجلسة الافتتاحية للقمة انتظر غالبية الصحفيين مفاجآت الزعيم الليبى.. أشار أحدهم إلى شيوخ القبائل الذين حضروا الجلسة وهمس لى: ربما يدعو القذافى هؤلاء ليأخذوا أماكن القادة العرب.. قد يأمرهم الآن بانتزاع السلطة من عملاء الإمبريالية!.. قلت لزميلى: اطمئن لن يُفسد القذافى قمته!..فى نفس الجلسة صال وجال رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوجان، هاجم إسرائيل بضراوة، صفق له الحاضرون بحرارة الباحثين عن مُنقذ.. صفقتُ معهم احتراماً لزعيم يعمل بصدق لمصلحة وطنه، ويسعى للمشاركة بقوة فى رسم سياسة الشرق الأوسط، دون أن يتزعزع التعاون العسكرى والاقتصادى بين تركيا وإسرائيل! لم ينقطع عبدالحليم عن الغناء، لكن بركان الغضب لم ينفجر ليوحد قادة العرب فى سرت.. جاء كلٌ منهم وفى نيته تقديمُ براءة ذمة لشعبه.. تحدث بعضهم بانكسار مثل عبد الناصر فى خطاب التنحى بعد هزيمة يونيو.. ألمح عمرو موسى إلى رغبته فى مغادرة منصبه العام المقبل.. لم ينزل شيوخ القبائل ليطالبوه بالبقاء!.. مرَّ كلُ شىء بهدوء، حتى نشيد «الله أكبر» الذى عُزفت موسيقاه فى ختام القمة بدا كلحنٍ جنائزى.. شكرتُ الظروف التى منحتنى أياما ستينية، ربما ستعاد بنفس السيناريو بعد شهور فى القمة الاستثنائية المقبلة! [email protected]