بقلم: خالد الشموتي في وسط زحام العمل الشديد فوجئت أن هناك عطلة رسمية للبلاد (كندا) يومي الحادي عشر والثاني عشر من نوفمبر، تهللت كثيراً، حيث أنني سأستطيع أخيراً أن أحصل على قسط من الراحة. كان فضولي وتوقي لهذه العطلة يفوق كثيراً فضولي لمعرفة السبب وراء هذه العطلة، لذا اكتفيت بما هو موجود في التقويم السنوي للجامعة عن هذه العطلة بأنها يوم الذكرى، ولم أشغل بالي كثيراً عما يتذكرون تحديداً في يوم الذكرى. زاد معدل نزولي للشارع ولم يكن يوم الحادي عشر من نوفمبر قد حل بعد، ولكن منذ بدء هذا الشهر وإذا بأغلب الناس في الشوارع من أغلب الأعمار، ليس فئة عمرية دون الأخرى، حتى في التلفزيون، مقدمي البرامج والضيوف، أغلب هذا الشعب ظهر ويزين صدره بوردة حمراء. العجيب، أنه لم تختلف الورود الحمراء عن بعضها البعض، كلها كانت نسخاً طبق الأصل من بعضها البعض، شد ذلك انتباهي بشدة، واستثار فضولي لأن أسال عما يحدث بالضبط. حتى أخبرني صديقي مشكوراً أن هذه الوردة الحمراء يضعونها لكي يتذكرون موتاهم الذين قتلوا في الحرب العالمية الأولى! إن هذه الوردة الحمراء، يرتديها الجميع كباراً وصغاراً، تعبيراً عن امتنانهم لقتلاهم في الحرب العالمية الأولى (أكثر من 90 عاما مضت) والدور الذي قاموا به، وأنهم لن ينسوهم وأنهم سيظلون يحملون لهم التقدير والشكر والعرفان لما قاموا به في الحرب. وترجع هذه العادة إلى قصيدة شهيرة كتبها شاعر وضابط طبيب كندي يدعى جون ماكراي قتل في الحرب، كتب قصيدته الشهيرة "في حقول فلاندرز" في مدينة "يبرس" البلجيكية، ويحيي فيها الأمل بعد الحرب، وقد كانت هذه المدينة دمرت عن بكرة ابيها في الخرب ولم ينج غير هذه الورود الحمراء التي عبرت عن أن الأمل موجود ولم يدمر. وأخذت بعدها أستاذة الحضارات الأمريكية موينا مايكل عهداً على نفسها بارتداء وردة حمراء حتى آخر يوم في عمرها تخليداً لذكرى كل من خدموا وقتلوا في الحرب العالمية الأولى. إنه لمشهد مهيب وعجيب، يقشعر له البدن عندما ترى هذا الكم من الإحساس الصادق بالولاء، إن ذلك في الحياة اليومية العادية، لأشخاص بسطاء لا ناقة لهم ولا جمل بحرب مضت منذ 90 عاماً مضت، والأكثر من ذلك أنهم يشعرون أنهم جزء من الوطن، وهم يضعون هذه الوردة الأنيقة على صدورهم تعبيراً وتضامناً من داخلهم مع من ضحوا من أجل وطنهم. هؤلاء الأشخاص ليسوا في طريقهم لمقابلة أحد المسئولين، ولا في استعراض عسكري، ولم يجبرهم أحد على أن يضعوها، ولم ولن يسألهم أحد لم وضعوها. إنهم يضعونها فقط، لإحساسهم أن هذا واجبهم تجاه وطنهم. المحزن المبكي، إنه في خلال أيضاً شهر نوفمبر، وأيضاً في بدايات الشهر، دارت معركة طاحنة بين جيوش ثلاث دول وسكان مدينة لم يملكوا إلا بضع بنادق يدوية. أبادت القوات الاسرائيلية والإنجليزية والفرنسية مدينتي الأم بورسعيد، إبادة جعلت أنتوني إيدن وزير خارجية بريطانيا آنذاك شخصياً يصرح حرفياً "بورسعيد تحترق". ثلاث جيوش كانت في مواجهة مقاومات شعبية مدنية، في معركة غير متكافئة على أي مقياس، راح ضحيتها العديد من أبناء وسيدات وشيوخ وأطفال هذا البلد العظيم. راحوا ضحايا وهم نائمون في بيوتهم بعد أن دمرت فوق رؤوسهم. راحوا ضحايا وهم لم يحملوا سلاحاً قط. مساكن دمرت ومساجد انتهكت، وجيل تشرد، وجثث انتشرت في الشوارع حتى ضاقت بعربات الإسعاف، فكانت تحمل على عربات الباعة الجائلين. بالله إذا أي شعب أحق أن يتذكر قتلاه وضحاياه الذين ضحوا من أجله؟ تمر هذه الذكرى دون أدنى اهتمام رسمي أو غير رسمي. العلاقة الوحيدة بين الدولة والشعب من جهة، وبين شهدائنا الذين راحوا ضحايا في الحروب المختلفة من جهة أخرى لم تتعد رؤية السيد الرئيس في زيارته لقبر الجندي المجهول بالورود. ولكن الشعب نفسه لا يشعر بأي مسئولية حقيقية أو واجب أو عرفان تجاه من راحوا ضحايا في الحروب المختلفة. إن المواطن المصري لا يتعامل مع هذا الشعور إلا في استاد القاهرة الذي أصبح المكان المشترك بين أي أغنية وطنية حالية بشكل يدعو حقيقة للتعجب، إن المسئولية التي جعلت بسطاء الشعب الكندي حريصون على وضع هذا التذكار، كانت مسئولية داخلية، لم يكن إملاء من أي مسئول، أو لأنهم سيتم تصويرهم ووضع صورهم في الجرائد، إنه شعور داخلي بالمسؤولية واحترام حقيقي للواجب. هذا الشعور بالواجب والشكر والمسؤولية تجاه الوطن ومن ضحى من أجله، هو المحرك الرئيسي لكل مواطن أن يفعل قصارى جهده لخدمة بلده، إحساسه الغير مزيف، الغير مرتبط بغاية معينة أكثر من كونه إنسان يحمل شعور طيب لإنسان آخر يتشاركون نفس الوطن، هذا الشعور يعكس بالضرورة قاضياً داخل كل مواطن، يحاسبه إذا شعر أنه مقصر في خدمة بلده، إن هذا القاضي الداخلي اسمه الضمير. [email protected]