انتبه وكأنه استيقظ فجأة، اجتاحت حواسه يقظة متوهجة وكأنه مصباح كهربائى أضىء لتوّه، آخر ما يذكره أنه كان منهكا، ضائق الصدر، لاهث الأنفاس. ثم حدث شىء لا يذكره الآن، بعدها أحس براحة غير اعتيادية وكأن جبلا قد انزاح عن صدره. ................ تنهد وسار فى طرقات المدينة الهادئة، النور منبث فى الأفق، والقمر باسم مستدير. منذ متى كان الليل بهذه الروعة والسماء مكتظة بهذه النجوم! كان متوهجا فوق العادة، أنفاس الليل تتخلله، ونشوة مجهولة تُثمله، وكأنه أشعل قلبه مباشرة من النجوم. وفجأة لاحت أمامه ساحة متسعة. لم يتردد لحظة، كان قلبه مفعما بالود، توّاقا إلى المناجاة. استوقفه أول وجه شاهده. صرخ فى فرح وهو لا يصدق نفسه: «هشام»!، أول صديق فى حياته يعود لعالمه من جديد!! والأغرب أنه استطاع أن يميز ملامحه القديمة، جلس بجانبه وقلبه يدق من الانفعال، أى ذكريات تعبر ذهنه الآن: لهوهما فى الشارع معا، ركوب الدراجة وقت الغروب، وأفلام الكرتون التى كانا يشاهدانها معا، والغم الذى أحس به حين أخبره بأنه سيسافر إلى أمريكا ليلحق بأبيه، كانت أول صدمة فى حياته، ولمدة عام كامل بعد رحيله ظل يتطلع إلى الشرفة الموصدة وقد أظلم قلبه الصغير. .......... تلفت حوله، وهو لا يصدق عينيه. «باسم» أيضا؟! صاحب الوجه المستدير والشعر المفلفل، رفيق الطفولة وجاره القديم، الذى شاركه لعب الكرة ساعات النهار، وفى النهاية كان الرحيل!. وانطبع فى قلبه بعمق أبدى أن الأحبة دائما يرحلون. ............ تقدم أكثر.. «طارق»؟، صديق الصبا والمراهقة المتوثبة والقلب النضير. وطرقات المدينة التى ذرعاها ألف مرة والذكريات المشتركة والحزن المتكرر عند الرحيل، جلس بجواره فأحس بأنه يصالح الأقدار ويطرح همه. ............... كان على حق حين قال إنها ليلة غير اعتيادية، الآن يشعر بأنه يعرف الأسرار كلها ويمتلئ باليقين. الآن يصغى لدبيب القوى الخفية، وتُلقى فى روعه القوانين المحكمة التى تحكم الكون. راح يترقرق فى الساحة، يشاهد كل الوجوه الصديقة التى مرت على حياته. شاهد وجه أمه المستدير المؤطر فى طرحة الصلاة، شاهد وجه أبيه الحزين وصلعته الأبوية، شاهد إخوته وهم أطفال، ووجوه أصدقائه فى جميع مراحل الحياة. شاهد كل الأحبة الغائبين. وقف فى منتصف الساحة وقال بصوت عال: «إنه مما يدخل السرور على القلب المُتعب أن يشاهد الوجوه الصديقة تجتمع كلها فى مكان واحد». ............... وفجأة انتبه إلى شىء عجيب ألقى البرودة فى قلبه: كيف اجتمع هؤلاء فى مكان واحد، رغم أنهم لا يعرفون بعضهم البعض؟، ولماذا لا ينظرون نحوه وكأنهم لا يشاهدونه، ولا يردون على كلامه وكأنهم لا يسمعونه!؟. هل يعنى ذلك أنه مات!؟، ولكن متى وكيف وأين؟! وزحف اليقين فى داخله فجأة حين لاحظ أنهم انهمكوا جميعا فى سماع صوت المُقرئ الذى يُرتّل القرآن.