ربما لم يكن مهندس الصوت الذى استقبل الشاب أبوالعينين شعيشع ذا ال17 عاماً من أجل ترميم بعض تسجيلات الشيخ محمد رفعت فى نهاية الثلاثينيات، بتقليد صوته وطريقة قراءته، يعلم أنه أمام أحد أهم المقرئين فى المستقبل، وكان «شعيشع» قد استفاد بقربه من الشيخ محمد رفعت ليلتقط كل دروس علوم القراءة منه، لم يثنه أبداً انشغال والديه باثنى عشر طفلاً فى البيت فحفظ القرآن كاملاً فى الكتاب، وأكمل دراسته، ومع منتصف الأربعينيات اتخذ لنفسه أسلوبًا فريدًا فى التلاوة، وكان أول قارئ للقرآن يسافر للدول العربية عام 1940 بدعوة من إذاعة «الشرق الأدنى» بالقدس، وأول من سجل القرآن على أسطوانات مدبلجة فى مطلع الخمسينيات، وقد بلغ أجر الشيخ أبوالعينين مائة جنيه فى الليلة الواحدة وأصبح يتقاضى خمسة وعشرين جنيهاً عن كل إذاعة له من محطة القاهرة عام 48، وهو مبلغ لم يصل إليه فى تلك الأيام سوى ثلاثة من كبار القراء كمصطفى إسماعيل وعبدالفتاح الشعشاعى ومحمد الصيفى. كان الشيخ أبوالعينين شعيشع يتحسس خطواته منذ هبطت به الطائرة فى مطار القدس، أخذته المدينة المقدسة بكل معالمها، اجتاز إحدى بوابات المسجد الأقصى ليصلى فيه، قبل أن يعتلى منبره ويرتل آيات الذكر الحكيم، كأول مصرى يقرأ القرآن فى الأقصى قبل الاحتلال الصهيونى، أخذته روحه إلى قراءة سورة الإسراء «سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»، ولأن مدرسته فى القراءة كانت تقوم على الشجن، حيث كان يلقب ب«ملك الصبا»، ذلك المقام الموسيقى الذى يبكى فى مقامات النغم، بكى كل من حضر قراءته، ولكن روح الشيخ تألقت ليخوض بعد ذلك معارك عديدة، من ضمنها ذلك المرض الذى حبس صوته فى مطلع الستينيات لكنه قاومه بروح المقاتل وانتصر عليه وعاد للقراءة قبل أن يخوض معركة جديدة لإنشاء نقابة للمقرئين، صار هو نفسه نقيبها عام 1988 بالانتخاب. وربما ساعتها تذكر الشيخ الجليل حينما كان طالباً بمدرسة المنصورة الثانوية وحكم عليه جميع الأساتذة بأنه لا يصلح لشىء، وذلك بسبب عدم التزامه بالدراسة والسبب سهراته فى الليالى التى يحيها القراء والمنشدون، وكان الغريب فى أمر الفتى الشاب حينئذ أنه كان فى الفصل وأثناء الدراسة يحرك شفتيه بكلام خافت.. وكان الذين يجاورونه فى الفصل يعلمون أنه يرتل القرآن.. وأنه لهذا السبب لم يكمل دراسته. شغل الشيخ شعيشع، الذي ولد في مركز بيلا، التابع لمحافظة كفر الشيخ، فى 12 أغسطس 1922، مناصب عدة، منها أنه عين عميدا للمعهد الدولى لتحفيظ القرآن الكريم، وعضواً بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف المصرية، وعضوا باللجنة العليا للقرآن الكريم بالأوقاف، وعضوا للجنة اختبار القراء بالإذاعة والتليفزيون، وعضوا بلجنة عمارة المساجد بالقاهرة، واشتهر بوسطيته وغيرته الشديدة على الإسلام، واعتبره المتابعون واحداً من أبرز المقرئين العظام، وقد كان للشيخ جولات فى ريف مصر محاولاً اكتشاف المواهب الجديدة، وأرجع ندرتها إلى اختفاء الكتاتيب من الريف، و«أكل البلاستيك والماء الملوث واستخدام الأسمدة الكيميائية التى أثرت عضوياً على صحة الإنسان»، حيث كان الشيخ دائماً ما يصف القراء الجدد ب«أكلة البلاستيك»، إلا أن المرض أقعده فى بداية عام 2011، ليتوفى بعد ذلك فى معهد ناصر بالقاهرة عن عمر يناهز ال89 عاماً، ليلقى ربه، ويطمئن على والده الذى قال عنه يوماً «يعود الشجن فى صوتى إلى حادث وفاة والدى الذى أثر على نفسى كثيرا».
