عرضت فى مقال الأحد الماضى للأسباب التى دفعتنى لمناشدة أعضاء الجمعية العمومية لحزب الوفد، عبر مقال نُشر فى صحيفة «الدستور» عشية اليوم المحدد لانعقادها، كى يصوتوا لصالح مقاطعة انتخابات مجلس الشعب المقبلة، وما أعقب ذلك من تعرضى لهجوم عنيف وصل حد التجريح الشخصى. لكن هذا التجريح، رغم بذاءته، لم يحل دون قولى فى ذات المقال بالحرف الواحد: «لست من أنصار البكاء على اللبن المسكوب، وأتمنى أن تراجع جميع الأطراف حساباتها، بما فيها حزب الوفد، الذى يجب أن يكون فى خندق المعارضة وليس فى خندق تحالف الفساد والاستبداد. ورغم قرار البعض بالمشاركة فى انتخابات لا يتوافر لها حد أدنى من ضمانات النزاهة، فإن هناك الكثير مما يمكن عمله فى إطار التنسيق بين القوى المطالبة بالتغيير، التى يتعين أن يكون الوفد والإخوان فى طليعتها، للضغط على النظام خلال الشهرين المقبلين. وإذا اعتقد حزب الوفد أنه قد أدى دوره وانتهى بمجرد قيامه بالتوقيع على ورقة الضمانات وإرسالها لأمين عام الحزب الحاكم مع د. رفعت السعيد، فما عليه إلا أن يعيد قراءة رده عليها ليتأكد بنفسه أن المشكلة الحقيقية مع النظام وليس مع الجمعية الوطنية للتغيير». ولأننى أشرت فى ختام المقال المشار إليه إلى زيارة قام بها وفد من «جمعية التغيير» إلى «جماعة الإخوان»، دار خلالها حوار مهم وعدت بإحاطة القارئ علما بما دار فيه، أجدنى اليوم ملزماً بالوفاء بالوعد. كنا ندرك قبل توجهنا إلى مقر «الإخوان» أنهم لم يتخذوا قرارا نهائيا بشأن الانتخابات، رغم وجود مؤشرات بأنه بات وشيكا وسيسير فى نفس الاتجاه الذى سلكه حزب الوفد. غير أننا كنا ندرك فى الوقت نفسه أن وضع «الجماعة»، العضو المؤسس بجمعية التغيير ومن قبلها بالحملة ضد التوريث، يختلف عن وضع حزب الوفد الذى رفض الانضمام إلى أى منهما منذ البداية. ولأن الهدف من اللقاء لم يكن محاولة إثناء الجماعة عن قرارها المتوقع، بقدر ما كان تبادل وجهات النظر حول تأثيره المحتمل على حالة الحراك السياسى الراهن وعلى مستقبل جمعية التغيير، فقد تعين على الطرفين معالجة الموقف بأكبر قدر من الإحساس بالمسؤولية، والصدق مع النفس ومع الآخرين، ومن الصراحة والوضوح والثقة المتبادلة، وهو ما تم بالفعل وبدأ بتبادل صريح للآراء حول جدل وجدوى المقاطعة والمشاركة. فى سياق وجهة النظر المؤيدة للمشاركة، والتى تدعمها «الجماعة»، تركزت الحجج على: 1- أن المقاطعة لن تؤدى إلى توليد ضغوط محلية أو دولية تكفى لإجبار النظام على إعادة حساباته، وتقديم حد أدنى من ضمانات النزاهة والشفافية بل، على العكس، ستتيح له فرصة ذهبية للتخلص من المعارضة الحقيقية. 2- لكى تكون المقاطعة فعالة يجب أن تجمع عليها كل القوى الرئيسية، وهو ما لم يعد متاحا بعد قرار الوفد وأحزاب رسمية أخرى بالمشاركة. 3- المقاطعة الجزئية تفيد النظام وتتيح له فرصة لتجميل وجهه لأنها تنزع دافعه للتزوير، ويتوقع أن يقبل فى هذه الحالة بإشراف دولى للحصول على شهادة نزاهة تصبح فى متناول يده!. أما وجهة النظر الأخرى، التى «تبنتها الجمعية»، فقد ركزت على حجج أخرى أهمها: 1- أن الوطن يمر بلحظة مصيرية تقتضى تغيير قواعد اللعبة، وليس مجرد التفاوض حول تحسين شروطها، وتتطلب من ثم تفكيرا استراتيجيا مختلفا يضع مصالح الوطن العليا فوق أى حسابات ذات طابع أيديولوجى أو سياسى. 2- أن المقاطعة الفعالة هى إحدى أهم وسائل الضغط التى ثبت نجاعها، أما المشاركة بلا ضمانات باحترام الإرادة الشعبية فتُحوِّل الانتخابات إلى مجرد ديكور يجمِّل وجه النظام. 3- لن تضيف المشاركة شيئا للإخوان، إلا إذا كانوا حريصين على إثبات وجود لم يعودوا بحاجة إليه، ولن تؤدى إلى الحد من سخط النظام عليهم أو الكف عن مطاردتهم، ولن تعطيهم نسبة تعادل ما حصلوا عليه فى انتخابات 2005، والتى لم تكن كافية أصلا لتغيير قواعد اللعبة أو لإجبار النظام على تغيير ممارساته. بعد أن فرغ كل طرف من استعراض حججه، التى لم يكن الهدف منها إقناع الطرف الآخر بوجهة نظره بقدر ما كان توضيحها والتأكد من عدم إساءة تفسيرها، كان من الطبيعى أن ينتقل النقاش إلى حديث عن شكل الخطاب السياسى للجمعية فى المرحلة المقبلة، فى ظل هذا التباين فى المواقف. وفى هذا السياق أوضحت الجماعة حرصها التام على استمرار عضويتها فى الجمعية وانخراطها فى معركة التغيير بكل قوة، واستعدادها لمواصلة حملة جمع التوقيعات على المطالب السبعة بنفس الحماس والإخلاص، والمشاركة فى المؤتمرات الجماهيرية التى تستهدف كشف مخطط التوريث وتعرية الفساد والتنديد بسياسات الحزب الحاكم التى أفقرت الغالبية العظمى من المصريين، وأضرت بمكانة مصر على الصعيدين الإقليمى والدولى. ولأن معركة التغيير معركة طويلة الأمد، فقد كان من الطبيعى أن يكون الحرص متبادلا على ضرورة استمرار عمل الجمعية لحشد وتعبئة كل القوى الطامحة فى التغيير، بصرف النظر عن التباين التكتيكى فى وجهات النظر حول الموقف من انتخابات مجلس الشعب. غير أننى وجدت أن من واجبى لفت الانتباه إلى صعوبة الموقف الذى ستواجهه الجمعية حتماً أثناء الحملة الانتخابية نفسها فى ظل هذا التباين، وإلى ضرورة أن يحظى هذا الجانب بما يستحقه من تفكير دون خداع للنفس. فلكى تظل الجمعية متسقة مع موقفها يتعين عليها أن تطالب الناخبين، خلال الحملة الانتخابية، بعدم التوجه إلى صناديق الاقتراع كى يكون بمقدورها أن تثبت أن لجان الاقتراع خاوية على عروشها وأن غالبية الشعب المصرى ترفض المشاركة فى مسرحية هزلية. أما «الجماعة» فإنها مشاركة ومن ثم فإنها ستعمل على مطالبة ناخبيها بالتوجه إلى صناديق الاقتراع للتصويت لصالح مرشحيها. ومن شأن هذا التباين أن يحدث بلبلة لدى الناخب وأن يصب حتما لصالح الاستراتيجية التى يتبناها الحزب الوطنى، الذى سيكون بإمكانه حينئذ توظيف نسبة المشاركة الجماهيرية فى التصويت واعتبارها دليلا على عزلة وهامشية القوى المطالبة، بالمقاطعة، وفى الوقت نفسه تزوير إرادة الناخبين بحيث تأتى نتيجة الانتخابات وفقا لما هو مرسوم لها. وحتى بافتراض تمكن الجماعة من مقاومة التزوير فى عدد من الدوائر، فمن المقطوع به أنها لن تستطيع أن تحصل على ما يكفى من المقاعد لحمل النظام على تغيير قواعد اللعبة، ومن ثم فإن مجرد مشاركتها فى مسرحية انتخابات عبثية يسهم، دون قصد طبعا، فى تسهيل مهمة الحزب الحاكم فى تمرير مشروع التوريث، ويظهر الجماعة بالتالى كما لو كانت جزءاً من معارضة رسمية، تقنع بما يلقى إليها من فتات، وليس جزءاً من القوى الداعمة للتغيير والمدافعة عن حق الشعب المصرى فى تأسيس نظام ديمقراطى بديل. وتأسيسا على هذا المنطق، لم أتردد مطلقا فى أن أقول بوضوح تام، فى وجود فضيلة المرشد العام وقيادات الإخوان، وهو ما وافقنى عليه زميلاى فى وفد الجمعية الدكتور عبدالجليل مصطفى والإعلامى حمدى قنديل، إننى لو كنت عضوا فى مكتب الإرشاد لصوَّت دون تردد لصالح المقاطعة عن اقتناع تام بأنه موقف صحيح يحقق مصلحة الوطن ومصلحة الجماعة فى آن. هو موقف يصب فى مصلحة الوطن، لأنه يساعد الجمعية على طرح نفسها كإطار يضم جميع القوى الداعية للتغيير، فى مواجهة الحزب الحاكم والقوى المساندة له، وبالتالى يضع الناخب أمام خيار واضح يساعد على الحشد ولا يثير البلبلة والانقسام، ويشجع المعارضين للمشاركة من داخل الأحزاب الرسمية على الالتحام بقوى التغيير. وهو موقف يصب فى مصلحة الجماعة على المدى الطويل لأنه سيميزها عن الأحزاب الديكورية، وسيساعد على إدماجها فى السبيكة الوطنية كأحد المكونات الرئيسية فى القوى السياسية المؤهلة للمساهمة بفاعلية فى صنع المستقبل المصرى والعربى. لست هنا فى مجال إعطاء دروس لأحد، وحاشا لله أن أنحو هذا المنحى. غير أن مهنتى كباحث فى العلوم السياسية دفعته الأقدار دفعا للقيام بدور ناشط سياسى فى مرحلة مفصلية فى تاريخ وطن يحبه وعلى استعداد للتضحية من أجله، توجب علىّ أن أسعى حتى آخر رمق لمحاولة لم شمل القوى الوطنية التى لا يمكن إحداث التغيير فى ظل استمرار تشرذمها. ولأننى أدرك يقينا أن هناك قوى، حتى داخل الجمعية الوطنية ذاتها، تسعى بكل ما أوتيت من قوة لتصفية حسابات قديمة معها، فإننى أهيب بالجماعة أن تتعامل مع الانتخابات المقبلة من منظور استراتيجى. وأيا كان الأمر فإن «قضية التغيير»، وليس «جمعية التغيير»، يجب أن تكون هى الأولى بالرعاية. فالجمعية مجرد إطار فرضته ظروف سياسية معينة، وبالتالى قابل للتغير والتكيف مع تطور الظروف والأوضاع، أما حاجة الشعب المصرى لتغيير نظام الفساد والاستبداد الذى يجثم على صدره منذ ثلاثين عاما، واستبداله بنظام ديمقراطى حقيقى، فليست قابلة للتغيير أو التبديل. وليس لدىّ أى شك فى أن الشعب المصرى سيلتف حتما حول كل من يراه مؤهلا لحمل هذه المهمة المقدسة على عاتقه، بالجمعية أو بدونها، وبالإخوان أو بدونهم. وسوف يكون على الجميع، خصوصا بعد نهاية الانتخابات، أن يراجعوا أنفسهم ويعيدوا حساباتهم فى ضوء ما جرى. فسوف تكون هناك معركة أكبر وأهم بانتظار الجميع ألا وهى معركة الانتخابات الرئاسية. المعركة إذن طويلة ومستمرة ولم تنته بعد، وعلى كل القوى الوطنية الداعية للتغيير أن تحافظ على وحدتها مهما كان الثمن.