يصعب الحديث عن عبدالناصر فى ذكرى وفاته الأربعين إذا تضمن الحديث نقداً لاذعاً للتجربة الناصرية، خاصة إذا كان الشخص الذى سيوجه الانتقادات يعتبر نفسه، بل وجوده على الأرض، مرتبطاً بطريقة جذرية بالتجربة الناصرية.. أنا هنا أتكلم عن نفسى، فبدون «ناصر» كان من الصعب جداً أن يصير والدى، الذى نشأ كفلاح بسيط فى قرية صغيرة بكفر الشيخ، دبلوماسياً مرموقاً، أو أن يتزوج والدتى، التى كانت تنتمى لعائلة من كبار الملاك فى ظل النظام القديم. هذا ما أعنيه بأن وجودى نفسه مرتبط بطريقة جذرية بالظاهرة الناصرية. وهكذا بالنسبة لنظريتى للعالم. كان والدى يعشق عبدالناصر، وكان قد عرفه شخصياً فى نهاية الستينيات، حينما كلفه «الريس» فى أكثر من مناسبة بحمل رسائل شفوية - كانت سريتها لا تسمح بإرسالها بالطرق التقليدية - إلى بعض الزعماء العرب.. وسافر والدى فى تلك الحقبة لدول أفريقية عديدة، وصار مغرماً بما كان يسمى آنذاك مسيرة التحرر الوطنى».. وفى بعض الليالى الثلجية فى موسكو كان يروى لى فى سياق «حكايات قبل النوم» - مغامرات كفاح أبطال تحرير أفريقيا من أمثال كاوندا ونكروما ونيريرى، الذين كانوا يستمدون من ناصر المساندة والإلهام.. وفى المرات القليلة التى كنا نذهب فيها إلى قريته الصغيرة بدلتا النيل، لم ينس والدى فى كل مرة الإشارة إلى إنجازات ناصر من توصيل الكهرباء والماء للفلاح وحتى تحريره وإعادة كرامته، وقبل وفاة والدى بأيام كانت الذكرى التاسعة والعشرين لرحيل الريس، ورأت أمى الدموع فى عينى زوجها عند متابعته فيلماً تسجيلياً ينعى بطله، محرر الكادحين. بالنسبة لوالدى وزملائه الأيديولوجيين، كان سقوط ناصر يوحى بانهيار البطل التراجيدى، البطل الجسور المُلهَم المُلهِم، ذى الشخصية النقية العظيمة الجلابة فى مجملها، رغم احتوائها على بعض الأخطاء القاتلة، التى ربما تجسدت فى قدر من السذاجة السياسية والثقة الزائدة بالذات، الأخطاء التى مكنت خصومه فى «أوليمب الإمبريالية» من تدميره فى النهاية.. مع ذلك، كانت هناك دائماً آراء أخرى مغايرة تماماً فى هذا الموضوع، آراء تبناها بالذات عمالقة العصر الليبرالى من أمثال توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ولويس عوض. ولأنى قد تكلمت من قبل عن نقد توفيق الحكيم فى «عودة الوعى» ونجيب محفوظ فى «قصة الكرنك»، أريد هنا أن أتناول نقد لويس عوض لعبدالناصر، الذى عبر عنه فى أكثر من مناسبة، لا سيما فى كتاب «أقنعة الناصرية السبعة». بعد تخرجه فى جامعة كمبردج، ذهب لويس عوض إلى «برينستون»، التى حضّر فيها رسالة الدكتوراة عن أسطورة برومييثيوس اليونانية القديمة. أسطورة بروميثيوس تحكى قصة البطل الذى تحدى الآلهة المتغطرسة، فسرق منها النار (أى المعرفة والقوة) مناصرة للإنسان الكادح، مما جلب عقاب الآلهة، التى كبلت حركة برومثيوس وعذبته.. لكن لويس عوض لم ير فى ناصر بطلاً مضحياً مماثلاً، تحدى آلهة الاستغلال والغطرسة أساساً فى سبيل تحرير «الشعب الكادح».. على العكس، اعتبر عوض أن اشتراكية ناصر كانت أقرب إلى الاشتراكية القومية اليمينية، أى أن نظام حكمه كان يعبر أكثر عن محاولة شبه فاشية للسيطرة على السلطة السياسية والاقتصادية، عن كونه محاولة أصيلة لتكريس العدالة والحرية والكرامة وتمكين الشعب من موارد البلاد. ففى نظر عوض، لم تأت نهاية ناصر نتيجة خطأ قاتل تخلل شخصية عظيمة فى مجملها، فالذى يتضح عند قراءة كتابات المفكر الكبير فى هذا الموضوع هو أنه قد توصل فى النهاية إلى أن «الريس» كان شخصية عبثية واستبدادية وفوضوية فى مجملها، رغم إقدامها فى بعض الأحيان على الأفعال الرصينة الإيجابية.. فتشبيه عبدالناصر بالبطل المأساوى العظيم، ذى الخطأ القاتل، يخفى فى نظر عوض حقيقة أن فترة حكمه اتسمت بقدر هائل من المراوغة المتعمدة والتزييف، وأنه كان فاقداً القدرة على التفكير المنظم العقلانى، أو التخطيط السياسى الجاد، أو الحد الأدنى من الفهم والإدراك لآليات عمل العالم الحديث.. وهو القصور الذى حاول أن يخفيه عن طريق كم مرعب من الاستبداد، ومن خلال خطاب خادع اتسم باللاعقلانية وتميز بضعف فكرى واضح، خطاب منغمس فى إشارات مثيرة ومسكرة تتعلق بصراع تحررى أسطورى أعظم، يلعب فى سياقه الريس دور البطل المخلص. فى هذا السياق، خسر المجتمع قدرته على الحركة والابتكار، وصار كتلة واحدة منصاعة عمياناً وراء الحاكم الملهم، بعد أن تم تفريغه من النخبة السياسية والفكرية والعلمية، وبعد أن دمرت جسوره الثقافية المعرفية مع العالم، حتى صار منعزلا ومنغلقا وفاقداً الاتجاه.. ثم عندما ذهب الحاكم الملهم، صارت الناس تلهث فى تخبط ورعب وريب وراء السلطة - أى سلطة. يصعب بالنسبة لى فعلاً الكلام عن عبدالناصر هكذا فى ذكرى وفاته، لكن الواقع هو أن إنجازاته قد تلاشت مع الزمن، لأنها لم تكن مبنية على أساس رصين يأخذ فى الاعتبار معطيات الواقع وآليات العالم الحديث، ليبقى معنا الآن فقط تراثه السياسى والفكرى المحزن والمخيف.. أعتقد أن أول خطوة فى الاتجاه الصحيح يجب - حتمياً - أن تتضمن اعترافاً صريحاً بذلك.