يواجه السودان حاليا الكثير من التحديات على الصعيدين الداخلى والخارجى، بداية من التوتر الذى يراوح مكانه بين الشمال والجنوب، وانتهاء بأزمة إقليم دارفور التى تطورت بشكل دراماتيكى لتصل إلى المحكمة الجنائية الدولية التى أصدر المدعى العام بها قرارا باعتقال الرئيس عمر البشير لمحاسبته على ارتكاب ما سماه «جرائم الحرب والإبادة»، وفى انتظار القرار النهائى للمحكمة خلال ساعات. دخل مركز القاهرة لحقوق الإنسان على الخط نفسه بتوزيعه «سى.دى» ذكر أنه «يوثق جرائم الحرب» فى دارفور. كل هذه التداعيات وغيرها كانت محل نقاش مع السفير السودانى بالقاهرة عبد المنعم مبروك، فى ندوة ب«المصرى اليوم»، لنتعرف على استراتيجية حكومة الخرطوم خلال الفترة المقبلة للتعامل مع هذه الإشكاليات. فإلى التفاصيل: ■ ما تعليقكم على ال«سى دى» الذى أصدره مركز القاهرة لحقوق الإنسان ويوثق جرائم «الحرب والإبادة»، التى تم ارتكابها فى دارفور حسبما ذكر المركز؟ - لا يعنينا هذا ال«سى دى» فى شىء، فهو جزء من الحملة الإعلامية ضد السودان، ويأتى فى إطار مبادئ النظام العالمى الجديد الذى يدعى حماية حقوق الإنسان فى دول العالم، ويحاكم من ينتهكها فى حين أنه يتناسى محاكمة من ارتكبوا مذابح ومجازر أكثر بشاعة فى دولنا. وعلينا أن ننظر أولا إلى خلفية مركز القاهرة الذى أصدر ال«سى دى» وعلاقته بمعهد كارينجى للسلام، ونتساءل عن تمويله الغربى الذى يرتب أجندته الحقوقية، وأنا أسأل المركز: لماذا لم توثق ما يحدث فى دارفور إلا فى هذا التوقيت؟، ولماذا لم توثق ما ارتكبته القوات الأمريكية فى حق الشعب العراقى من جرائم حرب؟ أو ما فعلته إسرائيل فى غزة من مجازر وإبادة؟ ■ ولكن إذ كنتم تعتبرون ما ورد فى ال«سى دى» غير صحيح، فلماذا لم تبادر السفارة السودانية بالرد على المركز ؟ - نعترف أن السفارة تباطأت فى الرد على نشره المركز، بسبب الانشغال بمسألة قرار اعتقال البشير، والمباحثات العربية والأفريقية فى هذا الشأن، إلا أن ذلك كان يعد لنا رد فعل استهجانياً إزاء ما روجه مركز القاهرة عن وضع حقوق الإنسان فى السودان، والتلويح بأن هناك «جرائم إبادة ضد الإنسانية» تم ارتكابها فى دارفور. ■ كيف تفسر اهتمام المجتمع الدولى بالأوضاع الداخلية فى السودان على هذا النحو، خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وحق تقرير المصير فى بلادكم ؟ - هذا جزء من «الدين الجديد» للنظام الدولى العولمى الغربى الذى يحول القضايا الداخلية للدول إلى مشكلات وأزمات دولية أمام العالم ليجد ذريعة ليتدخل فى حلها، وخاصة فى السودان، الذى طالما يواجه أخطارا كدولة، وكجزء من الأمة العربية والإسلامية التى تعانى من الاستهداف الغربى على مر التاريخ. فما يعانى منه السودان هو نتيجة لموقعه الاستراتيجى الرابط بين العالمين العربى والأفريقى، الذى جعله فريسة للسياسة الدولية منذ الاستعمار البريطانى وحتى الآن، وما تحمله من «نية مبيتة» لضرب استقراره وتقسيمه إلى دويلات وفصل جنوبه عن شماله. ■ ألا تعتقد أن الاستهداف الخارجى وحده لايمكن أن يخلق مثل هذه النزاعات الداخلية الكثيرة والمستمرة فى السودان، وخاصة فى جنوب البلاد، وإقليم دارفور؟ - لاننكر أن السودان يعانى منذ فترة طويلة من التقلبات السياسية والنزاعات الداخلية، فضلا عن الصراع الدائر والمستمر فيما يتعلق بالثقافة القيمية فى إطارها المعرفى والدينى والثقافى، إلا أن كل هذا أمر مدبر من الجهات الخارجية لإبقاء السودان فى هذه الدائرة دون السماح بقيام وطن متماسك وسط تمازج واضح بين أبنائه له هدف واحد هو بناء السودان. نحن نؤمن أن أزمة دارفور قضية سياسية لن يتم التعامل معها للتوصل إلى حل إلا من خلال المفاوضات بين الحكومة السودانية وحركات التمرد المسلحة فى الإقليم، فالأزمة ليست عرقية أو اثنية، وللأسف استغلتها بعض القوى السياسية الغربية لإحكام سيطرتها على السودان وتقسيمه بدعوى إنقاذ دارفور. ولكنى مازلت أعتقد أن السودان بإمكانياته الحالية يمكن أن يصبح قوة عظمى لها تأثير ثفافى واسع بوضعها الجغرافى والاستراتيجى وامتداداتها السكنية والقبلية الشاسعة، لولا ما يتم حولها من التخطيط لتقسيمها وإقامة مناطق للنفوذ الغربى فى أفريقيا من خلال السودان، وانشغال الكيانات السياسية فى الدولة بالصراع السياسى... فنحن بحاجة إلى وعى وطنى عربى إسلامى نحو ما يهدد أمن السودان، خاصة أن أمن مصر مرتبط بأمن السودان. ■ كيف تتعامل الحكومة السودانية مع قضية «اعتقال البشير»، خاصة بعد الحديث حول تحديد ميعاد للمحاكمة؟ - كل الكيانات السياسية فى السودان بما فيها الحكومة ترفض قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال الرئيس عمر البشير، والجميع ملتفون حول رفض تنفيذ قرار الاعتقال، بالإضافة إلى ذلك، الخرطوم غير ملزمة من الناحية القانونية بقرارات المحكمة الجنائية، لأنها ليست مصدقة على البروتوكول النهائى للمحكمة. فحكومة السودان شاركت فى «وثيقة روما»، لكنها رفضت التصديق النهائى، نتيجة شعورها أن هذه المحكمة ستتسم بازدواجية المعايير فى أحكامها، ولم تقم على أى أسس فقهية أو قانونية، وتم تأسيسها لتصبح «سيفاً مسلطاً» على دول العالم الثالث، ووسيلة فى يد الدول الكبرى مثل الولاياتالمتحدة لتنفيذ أجندتها السياسية، بعد أن نأت بنفسها من التصديق على برتوكول المحكمة لتحمى جنودها من الوقوع تحت طائلتها. فمن يريدون محاكمة البشير وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة التى زجت بالقرار إلى مجلس الأمن بعد موافقة الكونجرس، لابد من محاكمتهم أولا على ما ارتكبوه من جرائم فى حق غيرهم، فينبغى أن يتساوى الكل أمام القانون الدولى إذ كان هناك وجود لما يسمى «القانون الدولى». ■ هل هناك أى مخططات استراتيجية سودانية أو أفريقية أو عربية تجاه تأجيل أوإيقاف تنفيذ قرار المحكمة باعتقال البشير؟ - هناك تحرك أفريقى عربى، إذا اتفق عدد من المنظمات العربية على الإشارة إلى المادة الخاصة بتعليق قرار الاعتقال وفقا لبروتوكول المحكمة الجنائية الدولية، والتى مفادها أن يتم تعليق قرار مجلس الأمن لمدة «سنة» بشأن دارفور. بالتزامن مع ذلك يوجد تحرك إقليمى من الجامعة العربية والاتحاد الأفريفى أسفر عن تشكيل وفد عربى إقليمى مشترك للتحدث باسم السودان فى مجلس الأمن، خاصة فى ظل التلويح الأمريكى المستمر باستخدام حق الفيتو، ومحاولة استغلال دعم الصين وروسيا لنا مقابل فرنسا وأمريكا وبريطانيا، فضلا عن المجموعة العربية والأفريقية للوقوف ضد السودان ورفض اعتقال البشير. ■ وما رد فعلكم تجاه إمكانية عقد صفقة مع الحكومة السودانية يتم بموجبها تسليم من تم اتهامهم بارتكاب جرائم إبادة فى دارفور مقابل وقف قرار اعتقال الرئيس السودانى؟ - القضية ليست المحكمة الجنائية الدولية، وإنما سيادة السودان، فالتلويح بعقد صفقة لتسليم المتمردين مقابل إسقاط قرار الاعتقال عن البشير أمر يرفضه كل السودانيين، لأنه يعد انتهاكاً للشأن السودانى، خاصة أن المسألة أصبحت جلية، إنها قضية سياسية فى المقام الأول وليست حقوقية أو إنسانية. فمبدأ المقايضة مرفوض ولن نسلم «أحمد هارون» أو «على كويشه» مقابل وقف القرار ضد البشير.فنحن كقضاء سودانى نحقق فى الجرائم التى حدثت فى دارفور، وبدأت محاكم بالفعل فى التحقيق وإصدار أحكام على المتورطين فى هذا الأمر، وفيها إجراءات قانونية قاسية فضلا عن أحكام بالإعدام، ولدينا ما يثبت ذلك، فعلى المحكمة الجنائية الدولية أن تحترم اختصاص القضاء السودانى الداخلى، وألا تساوم. فلو كان قرار المحكمة قائم على معلومات حقيقية لما كانت تفاوضت على العدول عن قرارها، فذلك يدل على أن قرار الاعتقال ليس إلا ورقة ضغط سياسية على السودان. ■ ماذا عن استكمال عملية السلام داخل السودان خلال الفترة المقبلة فى ظل الصراعات مع الكيانات السياسية، خاصة بعد الإعلان عن مبادرة «الدوحة»؟ - نحن نؤمن بضرورة استكمال اتفاق السلام بين الكيانات السياسية والحركات المسلحة فى السودان، للوصول إلى صيغة اتفاق مبدئى يحقق الوحدة بين الفصائل السودانية والاستقرار، خاصة أن ذلك من شأنه استكمال عملية التنمية فى الأراضى السودانية. حاولنا من خلال مبادرة «الدوحة» التى توافرت لها جميع عوامل النجاح أن نجرى اتصالات مع جميع التيارات والحركات المسلحة، لتجلس على مائدة التفاوض وتضع اتفاقا شاملا. ■ دعنا نتحدث عن زيارة عبد الواحد نور رئيس حركة العدل والمساواة مؤخرا إلى إسرائيل فى ظل تصاعد الأزمة السودانية؟ - زيارة نور لإسرائيل، جاءت فجأة دون علم مسبق من الحكومة، وتزامنها مع مفاوضات الدوحة من قبيل الصدفة، فلقد كانت اتصالات مكثفة بيننا وبين نور من خلال الوساطة الأفريقية والعربية لحضور المبادرة. فهو يتفاخر بزيارته وعلاقته بإسرائيل، إلا أننا سنحاول الضغط عليه للتحاور مع التيارات السياسية المختلفة لإعلان مذكرة تفاهم، كبادرة لحسن النوايا، يوقع عليها الطرفان فى إطار استكمال المفاوضات. ■ ننتقل إلى الاستفتاء على حق تقرير المصير للجنوب السودان خلال هذا العام فى إطار الانتخابات السودانية؟ - الكلمة النهائية بشأن جنوب السودان فى يد المواطن الجنوبى وحق تقرير المصير والانفصال عن السودان الشمالى هو الذى سيصوت، بما تشكل لديه من الإرث التاريخى والإيمان بالمصلحة المشتركة للسودان ككل والمنطقة بشكل أوسع. فالأمر متروك للجنوبيين ليحددوا تفضيل استراتيجية الوحدة الطبيعية، والاقتناع بأن الوحدة لن تتم إلا عن طريق الاتفاق الشامل والوحدة التامة بين السودان، أم اختيار الانفصال عن الكيان السودانى. فمشكلة جنوب السودان ستظل تؤثر على وضع السودان، فضلا عن دول الجوار فى المنطقة التى تشترك معه على حدوده، ولها امتدادت جغرافية معه.