لم تكن روحه بانتظار ذكرى رحيله الرابعة لتحوم فى سماء بيروت، ولم يكن مناهضوه فى حاجة إلى انتقاد موجات البشر، التى تدفقت على ساحة الشهداء فى العاصمة اللبنانية يوم السبت الماضى لزيارة ضريحه، إذ لا يزال رفيق الحريرى، رئيس الوزراء اللبنانى الراحل، حاضرا بزخم على الساحة السياسية فى بلاده، رغم مرور 4 أعوام على اغتياله. سواء شاءت الموالاة أو أبت المعارضة، ما زال الحريرى يلهب حماس أنصاره لاستكمال «انتفاضة الاستقلال»، بل ويمارس - بعد وفاته - دورا تعبويا للجماهير فى تجديد التفويض لقوى 14 آذار، من أجل المضى قدما فى تفعيل المحكمة الدولية وللتصدى ل«تدخلات النظام السورى»، الذى لم يتسن لمعارضيه على مدار سنوات طويلة إخراجه من الأراضى اللبنانية كما استطاع الحريرى أن يفعل بمجرد اغتياله على يد مجهولة، بعد أن حامت الشبهات حول كونها سورية. ورغم اتهامات العمالة والانتقادات اللاذعة التى كانت توجه له لما قد يكون وراء حمله الجنسيتين اللبنانية والسعودية، تبقى ذكرى الحريرى فى أذهان الكثير من اللبنانيين كرجل عصامى كان أبوه مزارعا فأصبح هو رجل الأعمال الذى لعب دور الشريك الرئيسى فى إعمار لبنان بعد الحرب الأهلية، وأصبحت شركته «سوليدير» للمقاولات التى خصصها لهذا الغرض أحد أشهر معالم لبنان ما بعد الحرب، وقدم منحا دراسية جامعية لعشرات الآلاف من الطلاب من كل الطوائف واشتهر بأعماله الخيرية المتعددة، فضلا عن أدواره وعلاقاته السياسية المتشابكة على جميع الأصعدة الداخلية والإقليمية والدولية، مستفيدا فى ذلك من مكانته التى ارتقى إليها بمجهود سنوات طويلة وضعته على قائمة أغنى 100 شخصية على مستوى العالم. ورغم أن صيدا هى مسقط رأسه، فإنه لا يمكن لزائر فى بيروت أن يمر بشارع دون أن يرى بصمات الحريرى - حيا وميتا - فى كل زاوية، فهذا مسجده وقبره بوسط العاصمة، وذاك فى الطريق إلى شارع الحمرا عداد آلى يحصى يوميا الأيام التى مرت على اغتياله، وهنالك فى حى «سان جورج»، الذى شهد عملية التفجير المروعة التى أدت إلى استشهاده، حديقة أقامتها باسمه أرملته نازك، يتوسطها تمثال برونزى كبير له يقف شامخا متطلعا إلى البحر، وإلى جواره مسلة عملاقة تسجل إنجازاته وأقواله المأثورة محفورة عليها مثل : «ما حدا أكبر من بلده» و«أستودع الله هذا البلد الحبيب لبنان وشعبه الطيب». وفى ذات البقعة التى استقل منها الحريرى قطار الأبدية، أقيمت له شعلة تعلوها نار، أرادت من خلالها أرملته أن تحول نار التدمير، زنة الألف كيلوجرام، التى قتل بها زوجها الراحل إلى نار معاكسة ترمز إلى الإصرار على نيل الحرية والاستقلال. لذلك فإن السائرين على دربه، رأوا أن بحر البشر الذى تلاطم فى ساحة الشهداء يوم ذكراه جسد تعلّق مئات الآلاف من اللبنانيين بتلك الحرية فى مواجهة محاولات إخراسهم بالاغتيالات السياسية والتفجيرات الإرهابية، وفى مواجهة محاولات البعض «تعويد الناس على القبول.. والكف عن محاولات التمرد أو الصعود نحو الضوء، ونحو الحرية». أما مناهضو تيار «المستقبل»، فنظروا لتلك التجمعات البشرية الحاشدة باعتبارها دعاية انتخابية تسعى لتحويل أيقونة ال 14 من فبراير إلى أداة توظف لصالح قوى 14 آذار، لاسيما إذا ما وضعت فى إطار تهديدات نجل «الشهيد» سعد الحريرى بعدم مشاركة قوى 14 آذار فى الحكم، إذا ما فازت قوى 8 آذار، والتى قال البعض إنه هدف من خلالها إلى استنهاض الجمهور لإعادة الأكثرية إلى البرلمان وتعزيز «ثورة الأرز»، فى حين اعتبر آخرون أنها تهديد «حرفى» غير مجدٍ لتقويض المعارضة. وتعكس تلك الرؤى المتباينة الحريرى نفسه كونه «رجل المتناقضات»، الذى اجتمع واختلف عليه السنى والمارونى فى آن واحد، فأمام نصبه التذكارى وقف رجلان علق أحدهما بقوله «الحريرى كان أعظم من شكسبير ونابليون وكل أبطال الأساطير اليونانية القديمة.. قتل بسبب الغيرة من نجاحه ونفوذه»، أما الثانى فرد «لو بقى الحريرى حيا لكان لبنان فى حالة ازدهار اقتصادى، ولكن كانت سوريا مازالت هنا مسيطرة على البلد، فبماذا ينفع المال ونحن تحت الاحتلال».