كيف نجحت حركة حماس فى تعبئة الرأى العام العربى ضد مصر خلال أحداث غزة حتى تخطت تداعيات ذلك إلى عواصم أوروبية؟.. ولماذا لم تنجح مصر فى إقناع الرأى العام العربى بسلامة مواقفها؟ لا يزال السؤال مطروحاً.. ويجب أن يظل مطروحاً كنموذج لإدارة أزمة، فمضاعفات تلك الأحداث لم تنته بعد، وهنا محاولة إضافية للإجابة عن سؤال نال اهتمام حكوميين ومعارضين.. صحف قومية وخاصة. لا تتعلق المسألة بكفاءة أجهزة حماس وقيادتها، ولا بمناخ التعبئة التلقائى ضد إسرائيل على خلفية جرائمها المستمرة ضد الشعب الفلسطينى، أو بسبب استغلال عواصم عربية لممارسات إسرائيل للتغطية على أوجاعها الداخلية، ولا بتوفير حزب الله فى لبنان غطاء من شعبيته لحماس، لكن المسألة تتعلق أيضاً بقصورٍ شاب الخطاب الدبلوماسى والأداء الإعلامى، جعل هذا الخطاب وذاك الأداء غير قادرين على الإقناع رغم ما تملكه مصر من رصيد ومواقف وأدوات، فلم تسعف مصر دبلوماسيتها، ولم ينصفها إعلامها. مهمة الخطاب «الرسمى» فى مثل هذا النوع من الأزمات هى إقناع الناس بسلامة توجهات السياسة الخارجية، وبناء رسالة تشكل الثقة والوضوح فيها العمود الفقرى لهذا البنيان، لكن الناس طالعت ارتباكاً -غير مبرر- يوحى بأن هناك محاولة لإخفاء شىء، وغضباً مبالغاً فيه ليبدو كأن هناك رغبة فى الانتقام، وعدم إلمام كافٍ بمصر من جانب متحدثين يعكس شعوراً لديهم بالهزيمة؟! خلال هذه الأزمة دفعت مصر ثمناً باهظاً لمهادنة حماس لنحو ثلاث سنوات، حيث كانت السياسة الخارجية امتداداً للسياسة الداخلية فى أحد تجلياتها، أى للموقف من جماعة الإخوان المسلمين المحظورة قانوناً بينما هى فاعلة على الأرض، فلم تتحدد منذ اليوم الأول لقرار حماس خوض انتخابات المجلس التشريعى الفلسطينى فى يناير 2006، ثوابت التعامل مع الحركة كجماعة سياسية حصلت على تفويض شعبى فى انتخابات عامة لتسيير شؤون شعبها ولتحقيق طموحاته. خلال هذه الأزمة لم يتح للرأى العام الاطلاع على كواليس اتفاق المعابر 2005، واتفاق التهدئة فى يونيو 2008 بشكل كامل، واقتصر التعامل معهما على الإشادات بنجاح وساطة، ومنذ اليوم الأول للعدوان على غزة فإن بيان الرئيس حسنى مبارك الذى أدان فيه العدوان واتهم قادة إسرائيل بأن أياديهم ملطخة بالدماء لم يتم تسويقه سياسياً وإعلامياً.. على العكس فرضت تصريحات متواضعة نفسها على الإعلام الرسمى؟! استغلته الأطراف الأخرى كمادة خام للإساءة إلى مصر. حتى عندما احتاج الأمر إلى إصدار «كتاب أبيض» من وزارة الخارجية لشرح المواقف وعرض الحقائق، صدر الكتاب عن الحزب الوطنى الحاكم لأسباب غير مفهومة وتثير التساؤلات، فتعامل الرأى العام مع ما تضمنه هذا الكتاب بنفس روح التعامل مع شروحات الحزب لقضية «صكوك» الملكية الشعبية لبعض وحدات القطاع العام، مجرد نشرات دعائية غير مقنعة ولا تحظى بالمصداقية. فى مواجهة الاتهامات بالتواطؤ ضد حماس اكتفت الأصوات الزاعقة فى مصر بالدفاع الذى جاء أسوأ فى تداعياته من هذه الاتهامات، ولم يكلف أحد نفسه عناء استدعاء ذاكرة وزارة الخارجية فى عامين سابقين فقط، حيث البيانات والمواقف المصرية ترفض عدم اعتراف الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى بنتائج انتخابات المجلس التشريعى والتعامل معها، وتدين الازدواجية فى تطبيق المعايير الديمقراطية التى صدعت واشنطن أدمغتنا بها، وترفض عدم تعامل واشنطن مع حكومة فلسطينية برئاسة حماس أو تشارك فيها حماس، وتنتقد مطالبة حماس بالاعتراف بإسرائيل، وعدم مطالبة إسرائيل باحترام الاتفاقيات السابقة وحقوق الإنسان، كما انتقدت مواقف الاتحاد الأوروبى المزدوجة، التى ساهمت -بتنسيق مع قيادات فى حركة فتح- فى إجهاض اتفاق «مكةالمكرمة». وغاب عن البال عند الحديث عن معبر رفح تجربة تعامل مصر مع الحصار الدولى الذى كان مفروضاً على ليبيا، بسبب أزمة لوكيربى تنفيذاً لقرار دولى وليس تنفيذاً لإرادة دولة احتلال، فمصر لم تشارك كلياً فى تنفيذ قرار مجلس الأمن لأسباب إنسانية ولأسباب أخرى تتعلق بالمصالح الوطنية والقومية. وقياساً على التجارب والمصالح نفسها، ورغم حملات التعبئة ضد مصر فإن حماس تحتاج إلى احتضان لمصلحة الطرفين، وهذه هى السياسة، فقد أبرمت مصر معاهدة سلام مع إسرائيل رغم مائة ألف شهيد ونهبها ثروات سيناء خلال فترة الاحتلال، التى لم تدفع إسرائيل تعويضاً عنها تنفيذاً للمعاهدة ذاتها، فحماس فى النهاية طرف عربى ورقم فلسطينى من الصعب تجاهله فى المعادلة، ولعل الشروع -بعد الأحداث- فى استئناف جهود المصالحة وتجديد اتفاق التهدئة دليل مبدئى على اشتغال السياسة من الواجب أن تتبعه الاستفادة من دروس وسلبيات الأداء خلال الأزمة. مصر درجت على التسامح مع الأشقاء، ودرجت فى سياستها الخارجية على العمل تحت ضغوط أسوأ من ضغوط المشروعين الإيرانى والإسرائيلى، وفى التاريخ غير البعيد أمثلة لمن يقرأ ويتعلم.. سوء الأداء يصنع أحياناً أفخاخاً أكثر إحكاماً من أفخاخ الخصوم! [email protected]