من أفضل ما قرأت فى الأسابيع الأخيرة من مقالات وتعليقات على الجريمة التى اقترفتها الأيادى الصهيونية القذرة ضد المدنيين الفلسطينيين فى غزة، هو ذلك المقال للباحث والكاتب المتميز الدكتور عمرو الشوبكى بصحيفة «المصرى اليوم» يوم 29/1، حيث تعرض فيه بالنقد والتحليل لشعار جرى على لسان العديد من المسؤولين السياسيين فى نظام الحكم والبرلمانيين التابعين للحزب الحاكم، وهو شعار «مصر أولاً». أتفق مع المحلل القدير أن هذا الشعار كان مقصوداً لصنع تناقض وهمى بين مصالح الشعب المصرى والشعب الفلسطينى، بما يبرر الأداء الخائب والمتردد من قبل الإدارة المصرية تجاه هذه المأساة، وأتفق معه أيضاً فى لمحته الذكية عن أن تعامل النظام المصرى مع هذه الكارثة الإنسانية لا يختلف كثيراً عن تعامله مع كوارث مماثلة تعرض لها الشعب المصرى، الذى يدعى هؤلاء المسؤولون أن له الأولوية عندهم، مثل كوارث العبارات والقطارات والانهيارات وحوادث الطرق وغيرها، وما شهدناه منذ شهور قليلة لقوات الأمن المركزى وهى تمنع المواطنين من تقديم المعونات إلى أهالى كارثة الدويقة، وتسمح بها لجهات بعينها فقط، لا يختلف كثيراً عما تفعله هذه القوات نفسها عند معبر رفح!! إننى فقط أختلف مع الدكتور عمرو فى شىء واحد، وهو أننى أعتقد أن هؤلاء المسؤولين كانوا يعنون فعلاً ما يقولون ويؤمنون به ولم تكن كلماتهم للاستهلاك المحلى أو أنهم يسوقون الوهم لعامة الشعب المصرى.. لقد كانت كلماتهم تخرج من القلب فعلاً وأنا أصدقهم وهم ينطقون باسم النظام ويدقون على صدورهم بقبضة اليد ويصيحون بأعلى صوت «مصر أولاً».. لكن المسألة هى عن أى «مصر» يتحدثون؟! إن مصر التى يتحدثون عنها يا عزيزى د. عمرو هى منتجعات سيناء وفنادقها وشواطئها المفتوحة للعراة من كل مكان.. لقد سمعت بأذنى أحد كبار مسؤولى النظام يقولها هكذا بكل وضوح وصراحة: تريدوننا أن نأخذ موقفاً متشدداً مع جيراننا اليهود، وماذا عن مائة وكذا فندقا فى سيناء (بالمناسبة يعمل بها بضعة آلاف من المصريين بأبخس الرواتب وتحت ظروف معيشية أقرب إلى السخرة)؟!! «مصر أولاً» التى يتحدثون عنها هى التى احتكر فيها نفر من كبارها ثروتها من الغاز الطبيعى وباعوها لمن يبيعها للجيران الصهاينة بأبخس الأسعار فكيف نغضبهم وهم السبب الأهم فى تضخم ثرواتهم فى بنوك أوروبا وأمريكا؟! «مصر أولاً» التى يتحدثون عنها هى مصانعهم وشركاتهم الكبرى التى لم تفلح فى النفاذ إلى الأسواق العالمية إلا من خلال رضا اليهود الصهاينة ومشاركتهم معهم فى الفوائد والأرباح!! إنهم صادقون فعلاً يا د. عمرو «فمصرهم» هذه أولاً وثانياً وثالثاً.. إنها ليست مصر التى فى خاطرك وخاطرى، التى تغنت بها سيدة الغناء العربى بكلمات رامى.. مصر التى دعا رجالها فى زمن مضى إلى حق الحياة لكل من فى أرضها، وثاروا فى وجه الطغاة منادين بحقها.. مصر التى غنينا لها ألا تبخل بمائها على ظمىٍّ، وأن تطعم من خيرها كل فم.. مصر التى عاش أهلها كراماً تحت ظل العلم، وكانت تحيا عزيزة فى الأمم.. مصر التى هى مهد الرخاء ومنزل الروح الأمين وعاهدت نفسها على نصرة الحق المبين.. هذه هى مصر الأخرى التى فى خاطرنا جميعاً، والتى خبا صوتها بفعل الفقر والقهر والاستغلال والاستبداد، فوصلت إلى ما وصلت إليه الآن.. ليتغنى أهلها فى هذا الزمن بالشكوى والألم، والتى عبر عنها الشاعر العبقرى جمال بخيت بكلمات حزينة موجعة فى آخر أعماله «مش باقى منى» يقول فى نهايتها: ما عدت أملك شىء.. فيكى.. ولا فيا ولا قيراط ولا بيت.. ولا نسمة صافية تلاغى النيل بحرية مش باقى منى غير شوية حب جارحنى ولا باقى منى غير شوية ضى فى عينيا.. وآه يا زمن الصغار!!