هناك مدخل «أصولى ليبرالى» يتعامل به البعض مع قضية تصويت أفراد القوات المسلحة، فالمؤكد أن المبدأ الديمقراطى يقول إن من حق جميع المواطنين، بمن فيهم أفراد القوات المسلحة، التصويت فى أى انتخابات، أما فى مراحل الانتقال الديمقراطى فهناك قواعد استثنائية كثيرة ومسارات خاصة تساعد المجتمع للوصول لبناء نظام ديمقراطى وليس العكس، وهذا ما ينطبق على قضية تأجيل تصويت العسكريين فى الحالة المصرية. إن قيم ومبادئ الديمقراطية فى العالم كله واحدة، ولكن المجتمعات ليست واحدة، والسياق الثقافى والاجتماعى ليس واحداً، وبالتالى مسارات التحول لن تكون واحدة بل وقواعد النظام الديمقراطى التى تحكم كل مجتمع لن تكون واحدة. هل يختلف أحد على أن بريطانيا دولة ديمقراطية رغم نظامها الملكى، وكذلك اليابان رغم نظامها الإمبراطورى وثقافتها غير الأوروبية، وهل فرنسا التى قطعت رأس الملك وبنت نظاماً جمهورياً على أنقاض الملكية أكثر ديمقراطية من بريطانيا: الحقيقة العكس، فالقواعد التى نظمت الديمقراطية فى هذه الدول اختلفت من تجربة إلى أخرى دون أن تمس جوهر الديمقراطية نفسها. الأمر نفسه ينسحب على دول أمريكا الجنوبية التى شهدت ديكتاتوريات عسكرية، وكان مسار تحولها نحو الديمقراطية خاضعاً لتوازنات كثيرة مع هذه المؤسسة، ولم يقولوا يجب أن نبدأ من حيث انتهت السويد، وإلا كانوا قد وضعوا دساتير مثل الدساتير العربية رائعة وديمقراطية لا علاقة لها بالواقع المعاش، ولكنهم وصلوا فى النهاية إلى الهدف المنشود وهو بناء نظام مدنى ديمقراطى عبر مسارهم الخاص. وفى العالم العربى عرف كثير من الجيوش العربية ظاهرة اختراق التنظيمات السياسية، وكان الجيش المصرى قبل ثورة يوليو 52 أحد هذه الجيوش، وهو أمر لم تعرفه مثلا الجيوش الأوروبية طوال القرن الماضى (باستثناء البرتغال واليونان وإسبانيا)، وهو ما استتبع بالضرورة اعتبار أحد أهداف الدولة الحديثة فى مصر هو بناء الجيش الوطنى المحترف، جيش الدولة وليس النظام، والقضاء على اختراق الأحزاب للجيش، وهو ما نجح فيه عبدالناصر بعد هزيمة 67 وأعاد بناء الجيش على أسس احترافية كاملة سمحت بانتصاره فى حرب 73، واستمر على ذلك حتى الآن. وحين تصبح حولنا مجتمعات دفعت مئات الآلاف من الضحايا فى سوريا وليبيا وكثير من البلدان الأفريقية ثمناً لغياب الجيش الوطنى ووجود جيش القبيلة والعشيرة والحزب والطائفة، وتكون مصر من البلاد التى تبدأ تحولها الديمقراطى وهى تمتلك هذا الجيش الوطنى (وهو أحد شروط نجاح التحول الديمقراطى) يصبح من المنطقى على ضوء التحديات المحيطة بنا أن يكون الخوف الزائد على أى خلخلة (ولا نقول بالضرورة انقسام) تصيب هذا الجيش فى ذهن وقلب المشرع وكتبه «الدستور المسلوق». نعم هناك خصوصية لوضع الجيش فى كثير من بلاد العالم ومنها مصر، أى أن يظل حامياً للوطن والدولة ليس فقط من التهديدات الخارجية إنما أيضا الداخلية، ومنها الفشل الكامل والانهيار التام، وهى أخطار محدقة بنا الآن، وعندها لن يجد الناس غير الجيش الوطنى المهنى لكى يحمى ظهورهم، وليس الجيش الحزبى الذى خلقت بداخله ولاءات نفسيه لهذا الحزب أو ذلك التيار، إلا إذا كان البعض سعيداً بدور الجيش الأمريكى فى العراق ويرغب فى استيراده لمصر. نعم سيأتى يوم وسيصوت فيه أفراد القوات المسلحة مثل باقى أفراد الشعب فى الانتخابات، ولكن عندما تنجز مصر دستوراً توافقياً وليس دستور الإخوان، وبعد ضمان تداول سلمى للسلطة، لا يخون ولا يكفر فيه السياسيون بعضهم البعض. [email protected]