المشهد العام فى مصر يشير إلى فوضى عابثة، فوضى تحولت خلالها «أقلام حمقاء»، تحت ستار حرية التعبير، إلى عبء اجتماعى وسياسى لا يطاق بدلاً من أن تكون إضافة لقوة المجتمع. ولعل أخطر أعباء «الأقلام الحمقاء» أنها انقلبت بفعل الاحتماء بالسلطة الرسمية إلى خنجر فى ظهر مصر، وطعنة غادرة ضد «مصالحة عربية مازالت هشة» حققها الرئيس بصبره، وعفته، وسعة صدره. أقول ذلك بسبب ما قاله لى دبلوماسى عربى تعليقا على ما نشره عبدالله كمال، رئيس تحرير روزاليوسف، «تقولا» على الرئيس مبارك وعلى خطابه فى القمة. وخطورة ما قاله الدبلوماسى العربى أن الكاتب محسوب على النظام، ومعروف للآخر باعتباره بوقاً للسلطة الرسمية عبدالله يروج ذلك وهو ما يشكل خطرا محدقا بما تسعى له مصر من محاولات لم الشمل العربى. وكان رئيس تحرير روزاليوسف وصف كلمات الرئيس فى الخطاب الافتتاحى بقمة الكويت ب«العنيفة والقاسية». وقال إن خطاب مبارك «ليس أقل من صفعات تأديب وجلسة تربية للدول العربية...». وتابع: «بلغ الرئيس فى جلسة التأديب تلك مدى بعيداً للغاية»، وتساءل: «لست أدرى ما هو إحساس هؤلاء الصغار يقصد رؤساء وملوك الدول العربية وهم يوجه إليهم هذا الانتقاد الحاد ويتهمون من قبل الرئيس بالاستخفاف بالدم الفلسطينى وبأرواح الشهداء..» ويتزيد إلى حد القول: «لقد حولهم مبارك من ممانعين إلى تجار دم وبائعى أرواح.. ومتطلعين متسلقين لاهثين..». ويضيف الكاتب المحسوب على النظام: «انتابهم يقصد رؤساء الدول الرعب مما سوف تفعل فيهم مصر..» ثم لا يجد حرجا فى أن يقول «عاد يقصد مبارك وأودعهم يقصد الزعماء العرب جانبا رابتا على رؤوسهم كما لو كانوا أطفالاً»، ويضيف: «بعد أن انتهى من الصفعات.. راح يمارس عملية التربية.. والتعليم..». قال لى الدبلوماسى العربى، وهو بالمناسبة ليس محسوبا على دول الممانعة أو حتى دول الاعتدال: هذا لا يليق، لقد أصبح «هؤلاء» يقصد عبدالله والذين على شاكلته اليوم أخطر وأعتى تأثيراً من «العدو»، فالفارق كبير بين أن تعيش طليعة إنسانية أزمة بلادها، فتعمل على تقصى أبعادها ومحاولة تجاوز آثارها، وبين أن تنفخ تلك الطليعة بجهل فى نيران الأزمة، وتتحول امتداداً لها، وتصبغها بملامحها، وتكسبها صفاتها الحمقاء المندفعة، البعيدة كل البعد عن الوجه الأصيل النبيل لأمتنا. ومن هنا فإن أياً من الملاسنات غير المحسوبة، والتجاوزات المرفوضة هى فى الأساس عمل أرعن يسعى لتقويض مصالحة «هشة»، لا يستطيع أن يسلم فيها طرف للطرف الآخر بهذه السهولة أو يتراجع أمامه مهما كان الحق عنده، وليس معنى ذلك حتى الآن أنه فى مقدور أحد هذه الأنظمة أن يقفز من المصالحة إلى المواجهة المباشرة مع الطرف الآخر... وإنما معناه أن الوضع يصبح دقيقاً بالغ الدقة، لأن كليهما - مع هذا كله - يواجه محظورين لابد له أن يحول دون تعرضه لأيهما: محظور أن يسلم أو يتراجع. ومحظور أن يتورط أو يتصادم. وهذا يعنى أن تتوسع مساحات التلاسن المنبوذة. ومعناه أن الموقف بين الأنظمة المحتقنة يصبح أكثر توتراً. إن الشرر يتطاير بقرب شحنة قابلة للانفجار السريع.. فانتبهوا.. قبل أن تضيع كل الجهود.. إن نجاح مصالحتنا يعتمد أساسا على مقدرتنا فى إعطاء الفرصة لأصغر بارقة أمل، وكل صاحب قلب صادق ولأى إرادة حرة ومؤمنة بالخير المشترك بيننا. فهل ما فعله مراهقون فى الإعلام المحسوب على الدولة بتقولهم على الرئيس يدخل فى باب إفساح المجال ل«بارقة أمل»، وتمهيد الطريق للإرادات الحرة، والقلوب الصادقة أم كان محاولة سيئة لوأد «مصالحة هشة» جرت بما بذله الرئيس من صبر، وما قدمه من سعة صدر، وما تمتع به من قدرة على الاحتمال والترفع عن الصغائر. وسألته: هل فهمت من خطاب الرئيس مثل ذلك التطاول؟ وأجاب بالنفى، لكنه تابع: هناك اعتبار يتصل بهذه النقطة، وهو أن وجود الصحف القومية فى يد السلطة الرسمية يجعلها مسؤولة أمام الأنظمة المناهضة لمصر، والتى تفتش عن «هفوة» هنا أو هناك لتفلت من التزامها، ومصالحتها، وعبء الوحدة متلفحة بثياب الضحية، فضلا عن كون هذه الدول تملك أيضا إعلاما موجها وإعلاميين مأمورين على الخط نفسه، مما يجعل سمعة الرئيس على المحك، وذلك اعتبار له أهميته القصوى، إذ إن جزءاً من هيبة أى دولة معلق بكرامة رئيسها وصورته وسياساته وذمته الوطنية مهما جرى من خلاف. وقلت له إننى فهمت من خطاب الرئيس شيئا آخر، وأظننى على حق، فقد فهمت منه «أن حالة التشرذم العربى تدعونا إلى العمل على مواجهتها، وبذل الجهود المضنية، التى يجب أن تكون هائلة، وسريعة». وتقديرى أن مبارك وهو رجل عف اللسان واسع الصدر واضح الرؤية فعل ذلك وأكثر، ليس فقط لخلق ظروف مواتية لمواجهة «حمامات الدم» الفلسطينى المراق، بل لوضع أساس جديد وقوى للتآخى والتطوُّر والنمو فى المنطقة. وفهمت مما قاله أن أمتنا مطالبة وبسرعة للعمل على بلسمة جراحها، إذ يتعيَّن عليها أن تلعب دورها وتدشِّن مرَّة أخرى عهدا جديدا من السلام. وفهمت منه أن مصر صديقة لكل أمة وكل رجل وكل امرأة وكل طفل يسعى لمستقبل يعمه السلام وتسوده الكرامة. وفهمت أكثر من خطاب الرئيس وهو حسن أننا لن نعتذر لأحد عن طريقتنا وأسلوبنا فى الحياة وفى إدارة سياساتنا واستراتيجياتنا وتحديد أولوياتنا واختياراتنا فى حرية. وفهمت أنه قال لأولئك الذين يحاولون تحقيق أهدافهم وغاياتهم عبر نشر الفرقة وقتل الأبرياء، إننا سوف ننتصر كما انتصرنا أبدا.. لم يشتم ولم يصفع. لم أر أبدا فى الخطاب تعاليا، ولا تجاوزا، ولا صفعات تأديب أو ترهيب.. بقدر ما رأيت زعيما عربيا يعمل بقلب يحدوه الأمل والفضيلة، ويدعو الجميع وبلا استثناء لتحمل نصيبهم فى تجشُّم العناء ومواجهة مسؤولياتهم بشجاعة وعنفوان مرَّة أخرى أمام الله والناس والتاريخ. إن أخطر ما فى القراءة المتعسفة المغرضة التى قدمها عبدالله كمال لخطاب الرئيس أنها تفضح اندفاعه ل«شغل المسرح» وافتعال الأزمات والبطولات الكاذبة، و«النضال الإنشائى» وهى ممارسات مراهقة غير مسؤولة يرتكبها محسوبون على السلطة، وجب التحذير مما يحويه من خطر. .. خطر يتصل ب«لقمة عيش» الآلاف من الذين يعملون فى تلك العواصم وهى معضلة كبيرة لا يرضى الرئيس التضحية بهم وبأرزاقهم حماية لنزق إعلامى غير مبرر. خطر يتصل بدور مصر ووضعها. .. ويتصل بموارد للثروة الطبيعية والمواد الخام، وحلم بتكامل وتوحد قادم يبشر بغد مشرق. .. ويتصل بصداقة أو عداوة شعوب هى فى القلب منا- بما فيها الدول التي اصطفت فى المعسكر المعادى والمعاند لدور مصر – تسامح الرئيس ورضى أن يغفر زلاتها وتجاوزاتها، وأن يفتح صفحة جديدة معها. .. ويتصل -كذلك– بالقضية الفلسطينية التى دفعت مصر، ومازالت مستعدة وفق مسؤولياتها القومية لأن تدفع من أجلها الكثير. إننا نرفض التقولات «الطائشة وغير المسؤولة»، التى ارتضت بضعف البصر والبصيرة أن تحولنا جميعا بلحمنا ودمنا ومصالحنا ولقمة عيش الآلاف منا فى تلك العواصم إلى قرابين تافهة ورخيصة على موائد «اصطناع النفوذ» المفتعلة. الذى نشهده اليوم، فعلاً وقولاً، يؤكد أن مصر تسير فى محيطها العربى على حافة خطرة، يدفعنا إليها توتر مصنوع.. توتر تفتعله مضاعفات يجىء بها استمرار هذه الأقلام فى ملاسناتها الإنشائية الركيكة التى تصب كلها فى صالح العدو المتربص. إن التوتر المخزون فى النفوس أشد خطورة من الأسلحة المخزونة فى الترسانة الإسرائيلية المتوحشة.. كلنا يعرف ذلك ويعرف أكثر أن هذا التوتر هو الأخطر على الإطلاق.. لأنه قد ينفجر، لا بخطأ فى الحساب.. ولكن بكلمة واحدة فى المكان الخطأ. والمذهل أن تتورط مصر فى الاندفاع نحو «الكلمة الخطأ» بالسكوت على «تقوُّل أحمق» يأخذنا إلى فرقة يرفضها مبارك، ويأباها ويعرف خطورتها، وهى فرقة لم يكن ما يدعو إلى السقوط فى شباكها غير مصالح الصغار، وحماقة المراهقين الطامعين فى «شغل المسرح»! إن جهداً مصريا بذل وبغير تحفظ نحو وقف وتحطيم كل أسباب الشقاق والتشرذم العربى، ويجب ألا تدخر مصر باباً يمكنها من حمايته والحفاظ عليه. واذكروا يهديكم الله أن الجاهل يتعلم بقسوة التجربة والخطأ، فيما العاقل يستنتج، ويقرأ التجارب قبل أن يتورط ويورط بلداً طيباً ورائعاً وواسع الصدر أهله ورئيسه ودبلوماسيته فيها. [email protected]