وقفت فى رفح على الحدود مباشرة عند المعبر.. وكنت مطمئناً أن الوقت «فى الثانية ظهراً» فترة الهدنة، لكن يبدو أن الإسرائيليين لا يعرفون عهداً ولا وعداً، فالطائرات تنطلق والصواريخ تدك على الجانب الآخر ثم يظهر الدخان الأسود الكثيف الذى يستطيع من خلاله زملاؤنا الصحفيون والإعلاميون تحديد مكان الضرب وقوته، كما شرح لى زميلى «معوض جودة»، مندوب تليفزيون ال B.B.C الذى حفظ أنواع الطائرات وتوقيتات الضرب، بعد أن ذهب إلى الحدود منذ بدء العدوان لتغطية الحدث، مكثنا ثلاث ساعات على الحدود والطائرات لا تغيب عن السماء والصواريخ بأصواتها ودخانها لا تنقطع.. والوجوه المصرية والفلسطينية حزينة لما يحدث، فالعدوان دمر النفوس وليس الأجساد فقط، وهو ما عبر عنه أحد أقارب المرضى لوفد قيادات الحزب الوطنى الذى ضم صفوت الشريف ود. مفيد شهاب وجمال مبارك ود. على الدين هلال، فعندما دعوا بالشفاء للمصاب وتمنوا وقف إطلاق النار، رد الرجل الفلسطينى الكبير: «آثار العدوان بداخلنا أكبر مما يتخيل أحد». انتهى وقت الهدنة وكنا مازلنا فى رفح على بعد أمتار من المعبر، حيث المؤتمر الشعبى الذى عقده الحزب الوطنى.. وانطلقت أصوات الانفجارات تهز شبابيك وأبواب المبنى المقام فيه المؤتمر.. أول مرة اعتقدنا أن الأمر بسيط، لكن بعد دقائق انهمرت الصواريخ على غزة وتعالت معها أصوات الانفجارات وكثافة الدخان الأسود، وازداد عدد هزات الأبواب والشبابيك.. غضبنا وانفعلنا وترحمنا على شهداء غزة وعلى الجامعة العربية والوحدة الفلسطينية.. وعدنا إلى القاهرة ونحن ندعو لأهل غزة بالثبات.. وأبناء رفح المصرية بالصبر بعد أن صدعت الصواريخ دماغهم.. وتصدعت منازلهم.. وارتجفت قلوبهم تعاطفاً لما يسمعونه ويشاهدونه كل دقيقة من عدوان غاشم، لا يفرق بين مركز للاجئين ومدرسة تابعة للأمم المتحدة أو مركز للصحفيين.. كلهم سواء هدف للوقاحة الإسرائيلية وصواريخها. خليط من المشاعر انتابنى خلال هذه الزيارة، ما بين استهجان المواقف العربية والغضب من التصرفات الحمساوية، والحزن على القضية الفلسطينية.. لكن الشعور الأسوأ هو ذلك الذى سيطر علىّ بعد دقيقة من وصولى إلى معبر رفح، حيث وصلتنى رسالة على المحمول تقول: «مرحباً بكم فى إسرائيل»، وتظهر رقم خدمة الاتصال هناك وذلك بسبب اختلاط شبكات المحمول فى هذه المنطقة.. وظل اسم الشركة الإسرائيلية عالقاً على تليفونى حتى غادرنا المعبر.. وقتها شعرت أن الغزو وصل إلى محمولى.. وتذكرت أننا نقرأ اسم إسرائيل فى الصحف والقنوات مجبرين، فماذا تفعل عندما تجدها فى تليفونك الشخصى مصحوبة بعبارة «مرحباً بكم»؟! لقد كانت بحق رسالة كريهة. < وبالمناسبة فى صباح اليوم العشرين للقذف، وصل عدد الضحايا إلى 1034 شهيداً، تذكرت على الفور أن الرقم نفسه يحمل ضحايا حادث العبارة المنكوبة «السلام 1034».. تخيلوا أن إسرائيل بكل جبروتها وأسلحتها البرية والبحرية والجوية لمدة 20 يوماً قتلت 1034 فلسطينياً، بينما راح العدد نفسه من المصريين فى حادث واحد خلال ساعات وبسلاح واحد هو الفساد، لكن الغريب أن هناك من يطالب بمحاكمة القادة الإسرائيليين كمجرمى حرب، بسبب هذه المجازر وإحالتهم إلى «المحكمة الجنائية الدولية»، بينما تمت إحالة متهمى العبارة إلى «محكمة جنح»، ولم يعاقب أى مسؤول مصرى أو يحاسب على هذه الجريمة البشعة.. فسااااد يا مصر!