كما يقولون «رزقنا فى رجلينا».. المصادفة وحدها هى التى جعلتنا نحضر «الفدو».. بل نكون من ضمن «المعزومين».. هدفنا كان النساء فوجدناهن مشغولات فى إعداد أطباق الأرز المرصوص عليها قطع اللحم الضانى الكبيرة مع أكواب الشاى بالمرمرية الساخنة.. حاولنا أن نفلت من العزومة ولكن حذار، فقد يحدث ما لا يحمد عقباه.. هنا أنت الضيف.. لا مفر من الأكل والشرب، فهذا هو واجب الضيافة، وإذا ركبت دماغك وقررت ألا تأكل فقد يتحول الأمر إلى «حُكم العرب»، فتجد نفسك فجأة مديوناً بالآف الجنيهات لمجرد أنك لم تأكل.. إذن الأكل أو الدفع..: بعد أن أخذنا واجبنا بالكامل، وقبل أن أتوجه وزميلى المصور إلى البدويات داخل بيوتهن تكلم معى العديد من البدو عن مشاكلهم التى لم تختلف كثيراً عن تلك التى سمعتها من قبل ... المياه والصرف الصحى والكهرباء والمدارس والمستشفيات والتى تلخص عبارة أنهم «منسيون» فى مصر. وأيضاً مُر الشكوى من حكاية إلغاء تصاريح رحلات السفارى بالجمال للأجانب وإقامتهم فى الصحراء عدة أيام، وكيف أن هذا قد أغلق بيوتهم بل خربها أيضاً. ولكن الجديد عند بدو جنوبسيناء هو أسلوب التلفيق الذى يتبعه ضباط الشرطة المتخصصون فى القبض على البدو وتقديمهم للمحاكمة والحكم عليهم بسنوات عديدة - على حد قولهم - «ظُلم».. وبالتالى لا يدخل البدوى السجن بل يهرب إلى الجبال، فهى «أحنّ وأرحم عليه من الناس اللى تحت». وهذا ما يحدث أيضاً فى شمال سيناء وما كتبته فى حلقة خاصة عن اليوم الذى قضيناه مع مطاريد الجبل.. «سليم فرج سليم» واحد من هؤلاء المطاريد ولكن من جنوبسيناء كان يجلس بجانب الحاج فرج سليم، وهو كبير القبيلة وصاحب الذبائح التى أقيمت «زكاة» عن قيام زوجته بالسلامة من إحدى العمليات الجراحية. فاجئنى «سليم» قائلاً: أنا من مطاريد الجبل والشرطة هى التى حولتنى من إنسان عادى إلى واحد ينام نوم «الديابة». * هالتنى المفاجأة فسألت الحاج سليم الكبير إذن هو ابنك..؟ - رد على بحسرة:. نعم ابنى ولكنه مظلوم.. قبل أن أسأله عن حكايته قال لى: منذ خمس سنوات كنت أعمل فى الأردن وفى إحدى إجازاتى فوجئت بأن الأمن يحتجزنى فى نويبع، وكان يتبقى لى سنة خارج مصر.. حققوا معى وكانت تهمتى الاتجار بالمخدرات، وأنا أساساً لم أنزل مصر منذ عام، ولكن أسمى كان فى الكشوفات التى كتبها الضابط.. - المهم أفرجت النيابة عنى وفى نفس اليوم عدت إلى منزلى وحوالى الساعة الواحدة صباحاً اقتحمت الشرطة المنزل وكان الضباط معهم كم من الأسلحة وسحبونى إلى القسم، وهناك فوجئت بأننى تاجر سلاح وقُدمت للمحاكمة وحكموا علىَّ غيابياً ب25 سنة سجن، وطبعاً هربت للجبل مع المئات مثلى لأنى ببساطة لن أدخل السجن ظلماً.. وعلى فكرة أنا متابع أخبار الضابط اللى سجنى وهو مريض الآن وانتقل إلى بورسعيد، وكان ممكن أقتله، لكن أنا «سبته لربه» هو القادر على كل ظالم وآخر أخباره إنه فتح قلبه وعمل عملية قلب مفتوح.. منه لله وربنا مش هيسيبه!!! أمام دموع والد سليم وهو الحاج فرج الذى قام بتوديعه لأنه نزل إلى القرية خِلسة بعد غيبة 8 شهور.. أنهيت جلستى معهم.. فلم أملك سوى الصمت وتلك الأوراق التى أكتب فيها قصة سليم لأنقلها إليكم والمسألة ليست «سليم» واحد بل مئات.. وليبقى السؤال: لماذا هذا الثأر بين البدو والشرطة؟! سؤال فى حاجة لإجابة. أما عن النساء فلقد استقبلونا بحفاوة لا تقل عن مثيلتها عند رجالهن.. ولكنهن التزمن الزى البدوى اللهم إلا عيونهن هى التى تظهر.. حالهن بائس كما قالت لى «صباحة» فى بدايات الثلاثينيات من العمر ولديها ولدان.. بدأت حديثها بجرأة وصراحة تُحسد عليها قائلة: إحنا هنا بيزّوجونا أهالينا بدرى، يعنى البنت لما بتدخل فى ال25 وما بتتزوج يقولوا عليها عانس.. طلعت من المدرسة وتزوجت وربنا رزقنى بولدين.. تعرفى كان نفسى أبقى مدّرسة علشان أعلّم عيال البدو اللى هم أهلى..إحنا حالنا لا يسر عدواً ولا حبيباً، أنا مخنوقة أوى ومفيش حد بيسمعنا ولا حتى بيجيلنا، أصل مشوارنا بعيد.. أمنية حياتى إن عيالى تتعلم فى المدارس لكن المدرسين ما بيعلموش هنا، بالعكس بيضربوا العيال علشان يكرهوا المدرسة ومايروحوش لأنهم مش عاوزين يشتغلوا، هم موفدون من «مصر» - تقصد القاهرة - وإسكندرية وكفر الشيخ، وأكيد مش بيقبضوا كويس وكارهين عيشتهم وبيطلعوا همهم فى العيال.. سكتت «صباحة»، فقد كانت دموعها كفيلة بإسكاتنا جميعاً، ثم أضافت: ولادى ضربهم المدرس، ولما رحت للناظر اشتكى بصِّ لى من فوق لتحت وقال لى شوفى لهم أبلة ولا مدرس ب100 جنيه فى الشهر وهم ينجحوا وأضمن لك كمان إن مفيش حد يمد إيده عليهم من المدرسين. طيب إزاى وأجيب منين 100 جنيه فى الشهر.. أنا جوزى على قد حاله بيطلع على الجمل هو ورزقه وشوية غنم بنرعاهم، وأنا بشتغل ليل ونهار الحاجات البدوى اللى بيحبها السياح، يمكن حد يعدّى علينا بنبيع له، وده كمان ماعدش بيكسب لأن المرشدين السياحيين اللى مع السياح بيقولوا للأجانب ماتشتروش من البدو إللى على الطريق علشان هم إرهابيين وتجار مخدرات. حتى كباية الشاى ما بيشربوهاش عندنا.. فى حين أن المرشدين دول بيبقوا متعاقدين مع أصحاب البازارات الفخمة فى سانت كاترين وشرم الشيخ وبياخدوا عمولة على كل حاجة بيشتريها السائح.. وبتوع البازارات وبياخدوا المشغولات مننا برخص التراب ومش بنقدر نقول لأ لأن إحنا محتاجين والله يكفيك شر الحوجة..!! تركت «صباحة» وغادرت منطقة بير صغير بأكملها.. لم أعد فى حاجة للحديث فدموع «صباحة» البسيطة وكلامها الأبسط نجحا فى أن يصيبانى بالاختناق. فالقضية ليست بدو جنوبسيناء فقط، الذين يعانون من قلة التعليم، بل هى قضية التعليم بأكمله تلك المنظومة الفاشلة التى تزداد فشلاً وعقماً.. هى ليست قضية «صباحة» فقط بل هى قضية «بلد».