قد يكون من المفارقات أن حَمل الحزب لصفة الديمقراطى والاشتراكى لا يثير معارضة، بينما يثير حمله لصفة «الإسلامى» تحفظات، فقد اتصلت بى الدكتورة كوثر إلهامى، وهى طبيبة عريقة من جيل الخمسينات، ومن المتمسكات بالإسلام أيضًا، وقالت إن حمل الحزب لاسم «الإسلامى» سيثير إشكالات وإن من الخير أن نفعل مثل تركيا عندما جعل الجناح الإسلامى اسم حزبه «العدالة والتنمية». وفى السبعينات أصدرنا رسالة بعنوان «الحساسية الدينية»، قلنا فيها إن مجرد ذكر الإسلام أصبح يثير حساسيات، وهذه ظاهرة سيئة ويجب أن ترفض. ومع هذا فإنى أفهم الأسباب التى أدت بسيدة تدعو للإسلام كالدكتورة كوثر إلهامى، ثم تتحفظ على أن يحمل الحزب هذه الصفة، كما أدرك أسباب «الحساسية» التى أصبح الإسلام يثيرها. ولكنى أرفضها. وسأبين فى السطور التالية أسباب ذلك وآمل أن يفيدنى القراء بعد قراءة هذا المقال بملاحظاتهم، وقد يمكن أن تكون هذه الملاحظات موضوع إحدى المقالات. عندما أتمسك بصفة «الإسلامى» فهذا يعود إلى: أولاً: إن منطقتنا منطقة إيمانية، كانت إيمانية من أيام قدماء المصريين وكان الدين محور حياتها، فالمصرى القديم هو الذى أقام الأهرام وهو الذى عرَف الضمير، وهو الذى اهتدى إلى الله الواحد بعد تعدد الأديان، وعندما انتقلت مصر من الفرعونية القديمة إلى المسيحية، فرغم قصر المدة، وأنها كانت شكسة وتعرضت لمقاومة الحضارة اليونانية التى كانت الإسكندرية قلعتها الأخيرة، واليهود، كما قاومتهم البقية الباقية من أتباع الدين الفرعونى القديم، وقبل هؤلاء جميعًا فقد تعرضوا لنقمة البيزنطيين المسيحيين لاختلاف المذهب، وتعرض الأقباط لاضطهاد ومذابح، رغم ذلك كله أنجبت مصر اثناسيوس وآريوس وكان لها دورها فى تاريخ المسيحية، وأخيرًا عندما آمنت بالإسلام، فبعد أن فاتها السبق الذى ظفرت به دمشق وبغداد، فقد كانت هى وحدها التى هزمت التتار الذين كانوا رعب العالم، وهى التى حررت الممالك التى أقامها الفرنجة عند حربهم، وأنهت وجودهم وأعادت القدس. الأمة المصرية أمة مؤمنة من القديم حتى الآن، فالقبطى المصرى أشد تمسكاً بالمسيحية من بعض المسيحيين، والمسلم المصرى أشد إعزازاً للإسلام من المسلمين الآخرين، ولا يقال إن هذا يعود إلى الطبيعة الزراعية لمصر وأن هذه الطبيعة قد تغيرت، وأن الزراعة نفسها تغيرت وارتبطت بالصناعة، فقد يكون هذا صحيحًا ولكن طبيعة الإنسان المصرى كانت قد تكونت خلال الألفى سنة الأولى من حكم الفراعنة، وهل نتصور أن المصرى اليوم لا يحمل آثار التكوين القديم ؟ إن للحضارة «جينات» كالجينات العضوية تتوارث وتظهر فى بعض الخصائص، فالمصرى مثلاً لم يكن أبدًا وعلى مر التاريخ متوحشاً كبعض الأجناس، والحروب التى خاضتها مصر كانت أرحم الحروب، وطابع السماحة والاعتدال الذى تتسم به الشخصية المصرية، كلها تعود إلى الدين، ومن ثم فمن الخطأ أن نتصور أن الطبيعة الدينية للإنسان المصرى قد انتهت مع نهاية عهد الزراعة، إنها باقية تسرى فيه مسرى الدم، بل إن الطبيعة المصرية التى كان الدين أعظم مكون فيها، كانت من القوة بحيث صهرت طبيعة الأجناس الأخرى التى أوت إلى مصر وظلت فيها ومصرتها. وعلى كل حال، فمن المسلم به من الجميع - والكثير منهم من غير المسلمين أن الإسلام هو أعظم مكونات الشخصية العربية فى مصر والشام والعراق والحجاز والخليج والسودان، وأن نبض الجماهير إسلامى وأن تجاهل الحكومات الحديثة فى الدول العربية للإسلام كان من أكبر أسباب عدم التواصل ما بين القيادات والجماهير، وأن هذه القيادات ما إن ترفع لواء الإسلام حتى تدعمها وتؤمن بها الجماهير. ولا أجد حرجًا من الاستشهاد بواقعة إسلام زعيم حزب البعث، وقيل إنه أوصى بعدم إعلان ذلك إلا بعد وفاته، وكنت فى لندن عندما مات وقرأت فى جريدة «سوراقيا» مقالاً لرئيس تحريرها: «ميشيل عفلق فى ذمة الإسلام»، ورأيت صورة تابوته محمولاً على أعناق قادة حزب البعث وأولهم صدام حسين يصلون عليه فى المسجد. فإذا كان هذا حقاً فإن له دلالته، وإن لم يكن حقاً فدلالته أعظم، فما كان ليفتعل لو لم تكن هناك عوامل قوية تدفع إليه. وميشيل عفلق هو الذى سمى ابنه محمد والذى قال فى ذكرى الرسول العربى: «الفكرة القومية المجردة فى الغرب منطقية إذ تقرر انفصال القومية عن الدين لأن الدين دخل على أوروبا من الخارج فهو أجنبى عن طبيعتها وتاريخها، وهو خلاصة من العقيدة الأخروية والأخلاق لم تنزل بلغاتها ولا أفصح عن حاجات بيئتهم، ولا امتزج بتاريخهم، فى حين أن الإسلام بالنسبة إلى العرب ليس عقيدة أخروية فحسب ولا هو أخلاق مجردة، بل هو أجلى مفصح عن شعورهم الكونى ونظرتهم إلى الحياة وأقوى تعبير عن وحدة شخصيتهم التى يندمج فيها اللفظ بالشعور والفكر، والتأمل بالعمل، والنفس بالقدر». فإذا كان الإسلام هو وعى الأمة كما يقول ميشيل عفلق، فإن عدم الإفصاح عنه فى حزب يدعى تمثيل الأمة يُعد نقصًا فيه. ثانيَا: قدم الإسلام إضافة هذه المنطقة للحضارة الحديثة عندما توصل العلماء المسلمون فى الرياضة والفلك والحساب والهندسة والطب ثمرات أبحاثهم لأوروبا الخارجة من عهد الإقطاع والبادئة عهد الإحياء، كما قدم إليها العلم التطبيقى والجمع بين العلم والعمل، وكانت الحضارة اليونانية تحتقر كل صور العمل وتكلها إلى العبيد، فبفضل هذه الإضافة نهضت أوروبا، بل إن الإسلام له أثره على إصلاح المسيحية، سواء التقليدية بفضل ابن رشد، أو فى الإصلاح البروتستانتى. والحضارة الإسلامية (ولا أقول العربية، لأن الأجناس غير العربية ساهمت فيها بقدر قد يكون أكثر من العرب)، نقول إن هذه الحضارة التى رفعت ألوية العلم والمعرفة فى بغداد وقرطبة ودمشق ومصر، هى مساهمة هذه المنطقة فى الحضارة البشرية، وظهر فيها علماء وحكام وفقهاء وأبدعوا علم الجبر واللوغاريتمات والصفر.. الخ. فمن ذا يريد أن يجرد المنطقة من فخارها، ويجعلها عالة على الحضارة الأوروبية. ثالثاً: إن الإسلام هام، بل يجب أن يحظى بالأولوية لأنه يصب فى الإنسان ويكوِّن له ضميره الموصول بالله، وهذا هو أهم شىء ولا يمكن للإصلاح السياسى ولا الإصلاح الاقتصادى أن يصل إليه لأنهما يعملان فى مجال العوامل، بينما يعمل الإسلام على الإنسان، ولم تستطع أوروبا أن تبدأ تقدمها إلا بعد أن قامت بثورة الإصلاح الدينى وحررت العقل الأوروبى من هيمنة الكنيسة الكاثوليكية وخرافاتها، ومن هنا فإن الإصلاح الدينى قد يستحق الأولوية على الإصلاح السياسى والإصلاح الاقتصادى، لأنه بدون صلاح الإنسان، فإن كل الأوضاع لإصلاح السياسة والاقتصاد تفسد ولا تؤتى ثمرتها. وقد يدل على ذلك أن الدول العربية عندما ظفرت باستقلالها، لم تستطع أن تنهض بمسؤوليات هذا الاستقلال، فظهر الحاكم المستبد، كما ظهرت الجماهير المستسلمة، وسادت الرشوة واستغلال النفوذ، باختصار لم يكن الإنسان العربى قادرًا على تحمل مسؤوليات الاستقلال، لأن الظلم القديم والاستبداد الاستعمارى، والفهم السيئ للإسلام الذى ينوِّم الجماهير لم يسمح بتنمية الإرادة والاستقلال فى الشخصية، والمروءة والأمانة فى المسؤولية، وكان يجب أن تحدث ثورة إسلامية كثورة مارتن لوثر تحرر العقل العربى/الإسلامى حتى يصبح قادرًا على تحمل مسؤوليات الاستقلال (كما فعلت أوروبا) وهذا هو ما نحاوله الآن. رابعًا: إن ثورات الانتهاض لابد أن تقوم على «عقيدة» أو «نظرية» لها طابع الشمول وقد نهضت العرب بفضل ثورة الإسلام التى نقلها من جاهلية القبائل إلى أمة تحمل الكتاب والميزان، وهذا هو ما نحتاجه اليوم، وما يمكن أن يقوم به الإسلام إذا تخلصنا تمامًا من فهمنا السلفى ومن التزامنا التقليدى، وعدنا به إلى الأصول : (إلى القرآن والرسول) دون التزام بالتفاسير التى هى حشو وتمييع للصياغة المحكمة المعجزة للقرآن، وضبط السُنة بضوابط القرآن، وإعلان قيم الحرية والعدالة والمساواة والمعرفة، والانفتاح على العالم بجعل الحكمة أصلاً كالكتاب. إن أهمية هذه النقطة هى أن الإسلام ما لم يتجدد جذريًا، فيمكن أن يصبح من عوامل الحفاظ والتخدير والتسليم للحكام والتقليد للفقهاء، وأعتقد أن الذين يعزفون عن الإسلام إنما ينطلقون من هذا المنطلق، ولهم حق، وأنا شخصيًا، وأنا داعية إسلامى، أقول إن الأزهر إذا دعا إلى الإسلام فأنا أول واحد يرفض إسلام الأزهر، لأنه إسلام التقليد واتباع السلف وإطراح العقل.. الخ، إننا نتحدث عن إسلام جديد، وقد أمضينا عمرنا كله فى الدعوة له وإيضاح أصوله ووضع قواعد «إعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية»، فالإسلام هنا لا يعنى الإسلام السلفى التقليدى الشائع، فإنه مادام سلفيًا فلن ينظر إلى الأمام ولن يأتى بجديد، ولكنه يذوب فى الماضى، وبالتالى لا يمكن إصلاحه، إن الإسلام أمر خطير كبير ويريد الأقزام أن يحجموه «ويسخطوه» لينحط إلى مستوياتهم. إن الإسلام الذى ندعو إليه هو الذى وضع أقدم تعريف للمواطنة «بأنها العيش على الأرض الواحدة»، وكان ذلك عندما دوَّن الرسول غداة مقدمه المدينة وثيقة قرر بها أن الأنصار (وهم أهل المدينة الأصليون) والمهاجرين (وهم الذين فروا من اضطهاد المكيين ولجأوا إلى المدينة)، واليهود الذين تحالفوا مع قبائل الأنصار، هذه الفئات الثلاث تكون «أمة واحدة، للمسلمين دينهم ولليهود دينهم وهم يتكافلون بالمعروف ويدافعون عن المدينة، ويحتكمون إلى الرسول». أعتقد الآن أن الحملة على الإسلام، والحساسية عند ذكره، والعزوف عنه، والمخاوف التى تصحبه، كلها تزول إذا عرفنا أننا نقدم إسلامًا جديدًا حتى وإن كان أقدم إسلام، لأنه إسلام القرآن والرسول وليس إسلام الأسلاف والفقهاء.