آمنَ فيثاغورس، الفيلسوفُ الإغريقىُّ وعالمُ الرياضيات، وتلامذةُ مدرسته الفيثاغوريون، أن ثمة موسيقا تنبعثُ من الشكل الكروىّ. وأن كلَّ كوكبٍ فى مجموعتنا الشمسية، بما أنه كروىّ، يُصدرُ نغمةً وهو يدورُ حول الشمس. وفى دورانها معًا يتآلفُ النغمُ فيصنع لحنا أوركسترالياً فردوسياً. لكنْ، فى لوحة «موسيقا الأجسام الكرويّة»: Music of Spheres، للهولندىّ «فان جوخ» لن نلمسَ هذا التناغم العذب، بل سنكاد نهرب من رنين الأصوات الصاخبة التى يترددُ صداها بين التلال والأشجار والوديان. هى إحدى اللوحات التى تصوّر قوى الطبيعة الغاشمة حين تقهرُ الإنسانَ الموغلَ فى الضآلة والوهن. أكّد الفكرةَ نفسها فى لوحة: «ليلةٌ تضيئُها النجوم» Starry Night -طالع ص16 من هذا العدد- التى حللها النقادُ على نحو كهنوتى بالغ العمق. السماءُ الغاضبةُ القاتمةُ بنجومها تحتلُّ الجزءَ الأفقىَّ العلويّ الأكبرَ من اللوحة، فى مقابل المدينة التى تقبعُ بتواضع فى الأسفل. وشجرةٌ سوداءُ عاليةٌ تحتلُّ رأسيا مقدمة اللوحة، فى مقابل برج كنيسةٍ ضئيل فى الخلفية. كأنه يقول إن كلَّ ما صنعته الطبيعةُ ضخمٌ مَهيبٌ، فى مقابل ضآلةِ وضِعة ما صنعه الإنسانُ: السماءُ فى مقابل المدينة، والشجرةُ فى مقابل البرج. قضى هذا الفنانُ الحزين عمرَه القصيرَ، 37 عاما، بلا بهجة. رغم مقولته العذبة: «قرّرتُ أن أصنعَ السعادةَ عن طريق خلق الجَمال.» عاش منهزما خائرَ الروح، ولم يمتلك الثقةَ فى نفسه مطلقا، على رغم ثقته المطلقة فى اللون التى تجلّت فى ضربات فرشاته الكثيفة التى سيتعلم منها، فيما بعد، أبناءُ المدرسة «الوحشية» ثم «التعبيرية»، كيف يمنح اللّونُ الإنسانَ طاقاتٍ نفسيةً وروحيةً كبرى. حَلُمَ أن يكوّن فى «آرل»، بالجنوب الفرنسيّ، جماعةً فنية مع صديقه «بول جوجان». لكنهما كانا متباينيْ الطباع جدًّا، وكثيرى الشجار. وفى إحدى غضباته، هجم فان جوخ على جوجان وضربه! ثم، فى فورة ندمه، عاقبَ نفسَه وقطع جزءًا من أذُنه! (ليس صحيحا ما يُشاع بأنه قطعها ليرسلها إلى إحدى معجباته، على شاعرية هذه الشائعة!) ثم سجّل الواقعة فى بورتريه شخصىّ بضمادة حول الوجه. صارع جوخ حالات صرع حادة جعلته متقلّب المزاج دائما. ما وسم لوحاته بالتباين اللونىّ. ففى حين خرج بعضُها مفرطَ الإعتام، أشرقَت أخرى بألوان زاهية مفعمة بالحياة. وعلّ حياته العصيّةَ تلك سبّبت شعبيته العالية؛ لأن الناسَ قدّرت له الثمنَ الذى دفعه من أعصابه، لكى يورثَ البشريةَ ذلك الكنزَ الفنىّ المدهش. فى آخر خمس سنوات من عمره رسم لنفسه أكثر من ثلاثين «بورتريه» شخصيًّا تمثل حالاته المزاجية المتأرجحة بين الكآبة العميقة والبهجة الطفولية العارمة. وحين ضربتْ عقلَه الهلاوسُ عام 1888، ظلَّ يكافحُ ما كان يظنّه «أرواحا شريرة» حتى أودتْ به فى الأخير منتحرا. التجأ قبل موته بعامين إلى ملجأ كنيسة سانت ريمى هربا بهلاوسه من الناس. لكنّ هذا لم يمنع رسمه أجمل اللوحات هناك. وقبل موته بعام، سيأوى إلى فندق صغير ليعيش تحت رعاية أخيه ثيو. ثم تبدأ صحته فى التدهور السريع. وفى إحدى نوبات الإحباط يخرج إلى حقلٍ قريب ويطلقُ النارَ على صدره، ثم يتحامل ويعودُ مترنحا إلى سريره فى الفندق، ليموتَ بعد يومين فى 29 يوليو 1890، وآخر كلماته لأخيه: «الحزنُ سوف يدومُ إلى الأبد!» [email protected]