الآباء المؤسسون للدول ليس من الضرورى أن يكونوا ستة رجال وضعوا الدستور الأمريكى، الذى جاء ب44 رئيساً على مدى قرنين وعدة عقود من السنين، بمتوسط رئيس كل ست سنوات على وجه التقريب، وليس من المهم أن يكونوا 30 رجلاً صاغوا مبادئ دستور 1923 فى مصر، بما يضمن أن يكون هناك تداول للسلطة بين الأحزاب، فى ظل نظام ملكى دستورى المفروض فيه أن الملك يملك، ولا يحكم، فكانت لدينا تجربة ليبرالية من عام 23 إلى عام 52، ليس عندنا الآن شىء مما كان فيها فى ذلك الوقت.. ولو أن لدينا منها فكرة التداول وحدها، بين الأحزاب، لكانت كافية تماماً، ولكان وضعنا اليوم مختلفاً جذرياً عما نحن فيه، من سوء حال، على أكثر من مستوى.. ويكفى أن يُقال فى هذا المقام إن حزب الوفد، صاحب الأغلبية الكاسحة فى تلك الفترة، لم يحكم سوى تسع سنوات وبضعة أشهر، وكان خلال باقى الفترة خارج الحكم، لأن التداول يقضى بطبيعته بأن يكون الحزب، أى حزب، حتى ولو كان من نوعية الوفد ذاته، وحتى ولو كان فى جماهيريته، وشعبيته، داخل السلطة أحياناً، وخارجها فى أحيان أخرى!.. وقد كانت المحصلة لمجرد وجود فكرة التداول على السلطة، حتى ولو كانت مجرد بدايات، وحتى لو كانت عليها ملاحظات بلا عدد ولا حصر.. إننا فى عام 1952، عند نهاية التجربة، كانت لدينا واحدة من أقوى البورصات فى العالم، وكان لدينا ناتج قومى يحسدنا عليه الناس، بمقاييس الوقت والظرف، وكانت لدينا عملية سياسية شبه ناضجة، حتى ولو كان عليها مليون اعتراض، وكانت لدينا بدايات طريق يمكن إذا خضناه إلى نهايته أن نصل إلى شىء حقيقى، لا إلى سراب.. أما اليوم، فنحن لم نضع أقدامنا على بداية الطريق بعد، ولكننا نتخبط خبط عشواء! وليس من الحتمى أن يكون مؤسسو الدول، من خلال دساتيرها، خمسين رجلاً من القامات فى كل تخصص، كما حدث مع مشروع دستور 1954، الذى كان يؤسس لجمهورية برلمانية حقيقية، قبل 54 عاماً من هذه اللحظة، فكان مصيره سلة القمامة، لنعيش من وقتها، إلى الآن، على دساتير متبدلة، ومتغيرة، وخاضعة كل فترة للترقيع، والتعديل، حتى يمكن القول دون مبالغة إننا بلد بلا دستور! ليس من المهم - إذن - أن يكونوا ستة، ولا ثلاثين، ولا خمسين، وإنما يجوز جداً أن يكون هناك رجل واحد، يؤسس لدولة ويضع لها قواعد راسخة، تفرد لها مكاناً ثم مكانة بين سائر بلاد العالم، وهذا بالضبط ما حدث فى تركيا عام 1923، حين جاءهم رجل اسمه مصطفى كمال أتاتورك، أوقف العبث باسم الدين، ووضع خطاً فاصلاً بين الدين، بوصفه علاقة خاصة بين العبد وربه، من ناحية، وبين الحياة بكل ميادينها من ناحية أخرى، وما يجب أن تكون عليه، من حركة وانطلاق لا يعطلهما استخدام الدين، واستغلاله وتحويله إلى مطية من أجل تحقيق أغراض سياسية.. كمال أتاتورك أنهى خرافة الخلافة الإسلامية، وبدأ فى نفس عام إصدار دستور 23 فأصبحت بلاده الآن على مشارف أن تكون عضوا كاملاً فى الاتحاد الأوروبى، وأصبحت تستقبل استثمارات أوروبية تصل إلى 24 مليار يورو فى كل سنة، وأصبحت رقماً حقيقياً فى معادلات المنطقة، ومعادلات أوروبا ذاتها.. وأصبحت.. وأصبحت... مع أن البداية الحديثة لها هى بدايتنا نفسها عام 23، إذا كان من الجائز أن يكون دستورنا، الذى خرج للنور فى ذلك العام، بداية لدولة حديثة، ومع أن عدد سكانها فى عام 2008، هو 80 مليوناً من البشر، بما يوازى عدد سكاننا بالضبط.. فأين نحن؟! وأين هم؟! وهل السبب الوحيد أنهم وجدوا رجلاً أرسى قواعد الدولة، وأننا افتقدنا مثل هذا الرجل؟! وهل من بين الأسباب أن الرجل عندهم انتزعهم من الماضى، وتوجه بهم إلى المستقبل، بينما نحن لا نزال مشغولين بما إذا كان النقاب عادة أم فريضة؟!