الذين يرغبون فى أن يكون بيننا «أوباما مصرى» منفعلون باللحظة، لا أكثر، ومأخوذون بالأمانى الحالمة أكثر من أى شىء آخر، لأنهم يعرفون جيداً أن أوباما الأمريكى لم يأت من فراغ كرئيس منتخب، ولا هبط عليهم هناك من السماء، ولا انشقت عنه الأرض هكذا فجأة، ولا جاء بالصدفة، وإنما كانت هناك بدايات مقصودة أدت إليه، وأدت إلى غيره، من الرؤساء الأمريكان الثلاثة والأربعين الذين سبقوه على مدى قرنين وربع القرن من الزمان! وإذا كان كل أمريكى له أب واحد، هو الذى أنجبه، فإن له آباء ستة آخرين، هم الذين أنجبوا البلد كله، إذا صح التعبير.. هؤلاء الرجال الستة هم الذين وضعوا أساس الولاياتالمتحدة دستورياً، لتصل إلى ما وصلت إليه الآن.. هم الذين أرسوا حجر أساس قامت عليه أمريكا، ثم انتهت إلى صورتها الراهنة.. هم الذين أدركوا مبكراً جداً، ومنذ اللحظة الأولى، أنه ما لم يكن هناك دستور قوى يوزع السلطات على نحو حقيقى، فلن يكون هناك فى المقابل، بلد بالقوة التى نراه عليها الآن.. هؤلاء الرجال الستة هم الذين يطلق عليهم الأمريكان لقب «الآباء المؤسسون»، لأنهم جلسوا معاً ذات يوم، وأسسوا لدستور أمريكى يحكم البلاد، بجدية واحترام، من لحظتها إلى هذه الساعة.. وهو دستور لا يحكمها فقط، ولكنه يجعل ما للرئيس للرئيس، وما للكونجرس للكونجرس، وما للمحكمة العليا للمحكمة العليا، دون أن تفكر أى جهة من هذه الجهات الثلاث، مجرد التفكير، فى أن تمارس اعتداء من أى نوع، على حق الأخرى.. ولا أنسى يوماً كنا فى واشنطن العاصمة، حين قال مرافق لبنانى لنا، وقتها، إن سيد البيت الأبيض الذى يجلس فى المكتب البيضاوى، ويحكم بلاده، ومعها العالم، يبدو ضعيفاً، لا حول له ولا قوة أمام البرلمان، أى الكونجرس بمجلسيه، ليس لأن الرئيس فى البيت الأبيض، أياً كان اسمه، ضعيف فى حد ذاته، وإنما لأن الدستور الذى وضعه الآباء المؤسسون قد قصد منذ البداية تقليم أظافر الرئيس فى مواجهة البرلمان، ثم تقليم أظافر البرلمان فى مواجهة الرئيس، وكذلك مع المحكمة العليا، بحيث تبدو العلاقة بين الأطراف الثلاثة فى النهاية، وعند الممارسة السياسية على الأرض، محكومة بحالة من التوازن الدقيق جداً، فى توزيع السلطات، لا تكاد تجد لها مثيلاً على أى أرض أخرى! هؤلاء الآباء كانوا هم: جورج واشنطون، توماس جيفرسون، جون آدامز، ألكسندر هاميلتون، جون هانكوك، ثم بنيامين فرانكلين، هؤلاء هم الذين يعود إليهم الفضل كله فى أن يأتى أوباما رئيساً.. وهم الذين فتحوا الطريق من قبل، لأن يتعاقب على البيت الأبيض رجال من كل لون وصنف، من أول فرانكلين روزفلت، وهو الرئيس الوحيد الذى حكم لأربع فترات رئاسية فى التاريخ الأمريكى كله من عام 1932 إلى عام 1948. وبخلاف روزفلت، جاء رجال من أمثال كيندى، عام 63 إلى ريجان عام 80، الذى كان ممثلاً من نجوم هوليوود، إلى فورد من قبل الذى كان يُقال عنه إنه لا يستطيع أن يفعل شيئين فى وقت واحد، لدرجة أنه كان يعجز عن المشى إذا كان يمضغ اللبان!! هؤلاء الستة هم الآباء، وقد كان أولهم أكثر الأمريكان وقتها ثراء، وكان لديه عبيد يمتلكهم، ثم حررهم بالضبط كما فعل السادس أيضاً! هؤلاء هم الذين كان لديهم الوعى الكافى بأن بلداً بلا دستور جاد وحقيقى، إنما هو بلد بلا بوصلة، يظل يتخبط فى كل اتجاه، فصاغوا بوصلة البلد، ثم تركوه وماتوا، وهم على يقين بأنهم قد وضعوه على بداية طريق يقود بالضرورة إلى القمة، فى كل شىء.. هؤلاء هم الذين أدركوا سحر تداول السلطة.. هؤلاء هم الآباء، الذين عرفوا أن السلطة المطلقة فى ظل عدم وجود دستور من النوع الأمريكى، تؤدى إلى فساد مطلق.. هؤلاء هم آباؤهم.. فمَنْ آباؤنا؟!