بعد مرور ما يقرب من ستة عقود على قيام الثورة وبعد مضى حوالى ثلاثة عقود على حكم الرئيس مبارك، فإنه من الطبيعى أن تقوم لدى الكثيرين الرغبة فى «التغيير»، وإعادة النظر فى الأوضاع، وقد ساعد على ذلك ظهور واستمرار عدد من المشاكل أو ترديها على نحو جعل الحياة اليومية للمواطن العادى أكثر صعوبة، صحيح لقد زاد عدد المستخدمين للتليفون المحمول وكذا الإنترنت، كما دخل التليفزيون الملون معظم القرى، لكن هناك بالمقابل تفاقماً فى مشاكل أخرى أكثر خطورة مما زاد من الشعور بالإحباط، فبعد أن قامت الثورة لتخفيف حدة التفاوت فى الدخول والثروات بدأت الفجوة فى الثروات فى الاتساع بشكل مستفز، والأخطر من ذلك هو أن هذه الثروات الطائلة الجديدة تستقر فيما يبدو- خارج البلاد، أضف إلى ذلك أن مستوى التعليم العام فى تدهور مستمر، كما أن الإسكان العشوائى بدأ يزحف على معظم المدن لكى يصبح أحد معالم الحياة المصرية، وكثير من الأوبئة التى غزت العالم فى الفترة الأخيرة قد أصبحت أمراضاً مستوطنة فى مصر - دون غيرها - كما أصبحت المواصلات محنة يومية قاسية، ولم يعد الفساد متفشياً فى معظم الإدارات الحكومية فقط بل تورط فيه بعض كبار المسؤولين وأعضاء البرلمان، وفى مواجهة هذا التفاقم فى المشاكل اليومية للمواطن العادى - وليس فقط للمثقفين كما يحلو للبعض القول - فإن الحياة السياسية تبدو راكدة ليس فقط فى معظم مؤسساتها بل أيضاً فى عدد غير قليل من وجوهها، فعدد لا بأس به من كبار المسؤولين فى الحزب الوطنى انتقل من حزب مصر الذى شكله المرحوم ممدوح سالم، حيث كانوا قبل ذلك أعضاء فى الاتحاد الاشتراكى، ومن قبله فى الاتحاد القومى الذى ورث هيئة التحرير، ولذلك لم يكن غريباً أن تصبح الحاجة إلى «التغيير» رغبة شعبية فى ضوء تراكم المشاكل اليومية وثبات الوجوه أو تشابهها أحياناً بأسماء جديدة وإن بنفس الأنماط والخطاب، فرتابة المشهد وتفاقم المشكلات هى وراء الرغبة فى التغيير. عندما عاد الدكتور البرادعى، بعد أن أنهى عمله الدولى فى وكالة الطاقة الذرية، وأعلن دعوته إلى «التغيير» خاصة تعديل الدستور، التف حوله عدد غير قليل من المصريين من مختلف الاتجاهات السياسية، فالدعوة إلى «التغيير» تلقى تجاوباً عريضاً عبر أطياف سياسية متعددة الألوان، وقد تعرض الدكتور البرادعى، وبشكل خاص دعوته إلى التغيير، إلى غير قليل من النقد المبطن - وإن لم يكن خافياً - من عناصر محسوبة على حزب الحكومة كما من بعض الأصوات فى أحزاب المعارضة - وذلك بالتساؤل عن شكل هذا «التغيير» وماذا تقصد به، وأين برنامجك؟ وما موقفك من الدعم، وما رؤيتك عن اقتصاد السوق وتدخل الحكومة؟ وبشكل عام ما برنامجك السياسى؟ هذه هى التساؤلات. وأنا لم ألتق الدكتور البرادعى بعد عودته لوجودى فى الخارج، ولا أعرف ما يدور فى ذهنه بالضبط، وآخر مرة التقيته فيها كان منذ أكثر من عشر سنوات، عندما شرفنى بالزيارة فى مقر الأسكوا بالأمم المتحدة فى بيروت، ورغم كل هذا، فإننى أعتقد أن حسه كان صادقاً فى أن المطلوب فى هذه المرحلة هو «التغيير»، خاصة إصلاح الدستور، وأنه ليس صحيحاً أن هذه الدعوة فضفاضة وغير محددة أو أنه بغير برنامج حزبى مفصل تصبح دعوة «التغيير» بلا مضمون، كلا. هذا وقت تغيير الدستور، وتأتى «البرامج الحزبية» فى مرحلة تالية عندما يستقر الوضع الدستورى السليم، ودون ذلك فإننا نضع العربة أمام الحصان، فالمسائل الأولية تأتى أولاً، فهناك تفرقة بين «قواعد اللعبة»، و«أسلوب اللعب»، ودون «قواعد سليمة للعبة»، فلا مجال للمباراة أصلاً كما أنه لا جدوى من المهارة فى اللعب، كيف؟ قد يكون من المناسب أن ألجأ إلى مثال لعبة كرة القدم - لتوضيح الفكرة - مادمت قد استخدمت ألفاظ «قواعد اللعبة»، و«أسلوب اللعب». عندما يلعب فريق الكرة، فإن الأمر يتوقف إلى حد بعيد على مهارة اللاعبين وعلى الأسلوب أو الخطة المرسومة للفريق من جانب المدير الفنى، فهو يحدد أماكن اللاعبين، ويعطى تصوره للمباراة وهل تستند إلى الهجوم أو الدفاع، ومن هو رأس الحربة، وهل يتغير أسلوب المباراة من خلال الأداء، كل هذه التفاصيل وغيرها ضرورية لإحراز الفوز، ولكن - و«لكن» هذه مهمة - فإنه ما لم تكن «قواعد اللعبة» متفقاً عليها وواضحة ومنصفة فلا أمل فى مباراة نظيفة، ولابد أن يكون الحكم واعياً بهذه القواعد وأن يطبقها بعدالة وإنصاف وعدم تحيز. فإذا لم يتحقق ذلك فى «قواعد اللعبة»، بأن كانت القواعد متحيزة لفريق دون آخر، أو كان الحكم غير منصف، أو كان اللاعبون غير واعين بحقوقهم وواجباتهم، فإنه لا أمل فى مباراة نظيفة مهما كانت مهارة اللاعبين أو عبقرية المدير الفنى، وإذا انتقلنا من مجال كرة القدم إلى مجال العمل السياسى، فإن «قواعد اللعبة» فى الملعب السياسى هى «الدستور»، أما خطة الفريق أو أسلوب المدير الفنى فهما أقرب إلى «البرامج الحزبية». وبذلك يصبح التساؤل: أين الخلل الحقيقى فى مصر؟ هل هو فى «قواعد اللعبة» أى فى طبيعة الدستور القائم، أم أن المشكلة - على العكس - هى فى السياسات المطبقة أو «البرامج الحزبية» للحكومات؟ هذا هو السؤال. إذا نظرنا إلى تجربتنا السياسية، خاصة فى فترة حكم الرئيس مبارك، فإننا نجد أنه على حين احتفظ النظام بطبيعته فى تركيز معظم السلطات فى يد رئيس الدولة - وزادت تركيزاً مع استمرار حالة الطوارئ - فإن التوجه السياسى أو البرنامج الحكومى قد عرف تغيرات جوهرية بقرار منفرد من الرئيس، ففى الثمانينيات، ورغم أن عملية الانفتاح الاقتصادى كانت قد بدأت فى عصر الرئيس الراحل السادات، فقد كان شعار الدولة آنذاك هو أنه «لا مساس»، أى لا مساس بالقطاع العام، فهو ركيزة الاقتصاد القومى ورائد التنمية. هكذا بدأ عصر مبارك وكأنه اشتراكى الهوى، ومع بداية التسعينيات بدأت الدولة تستجيب لمطالب صندوق النقد الدولى والتى صاحبتها مغريات ثمينة - بعد المشاركة فى حرب الخليج الأولى - بإلغاء الديون الخارجية العربية والأمريكية ونصف الديون العامة الأخرى، ومع ذلك ظل شعار «لا مساس» قائماً وإن بصوت منخفض ولم تتقدم عمليات الخصخصة إلا قليلاً. وفى مرحلة ثالثة وبعد بداية القرن الجديد أسرعت وتيرة الخصخصة وبدأت ظاهرة تولى رجال الأعمال المسؤوليات السياسية فى أعلى المناصب. وتحول نظام مبارك إلى صديق للرأسماليين. وفى كل هذه المراحل، سواء فى مرحلة «اللامساس» أو مرحلة «المساس الخفيف» أو فى المرحلة الأخيرة «للمساس العميق»، فقد كان التوجه يتحدد بموجب قرار علوى من الرئاسة دون أى مساهمة واضحة من المؤسسات الأخرى. حقاً لقد استمر الحزب - على تقاليد الاتحاد الاشتراكى - مدافعاً عن القطاع العام وسياسة «اللامساس» حتى نهاية الثمانينيات، ولكن مع التوجهات اللاحقة التى جاءت بعد ذلك من أعلى فقد باركتها أجهزة الحزب دون مناقشة، ومن هذا يتضح أن العنصر الفعال فى سياسات مصر خلال نصف القرن المنصرم - وليس فقط مع حكم الرئيس مبارك - هو رئاسة الدولة نتيجة طبيعة النظام الدستورى القائم على تركيز السلطات فى يد واحدة، حيث تتغير السياسة مع تغير رؤية الرئيس، ففى ظل الدستور القائم - وما سبقه من دساتير الثورة - تتحدد أمور السياسة فى مكتب الرئيس. من هنا يبدو أن طريق الإصلاح الوحيد يتطلب إعادة النظر فى طبيعة نظام الحكم والعمل على إصلاح الدستور الذى يمنح كل السلطات لشخص الرئيس ومعاونيه، فالقضية السياسية فى مصر هى قضية الدستور وتركيز السلطات، وماعدا ذلك فهو نتائج أو توابع. الدستور يضع قواعد «اللعبة السياسية» فنظرة الدستور الحالى لممارسة العمل السياسى تقوم - بشكل كبير - على اعتماد نوع من الحكم الفردى مع مساندة من الأجهزة الشعبية، وهذه المساندة ليست مشاركة فى اتخاذ القرار بل هى تأييد ومباركة بعد اتخاذ القرار. وهكذا تتضح أهمية المطالبة بالإصلاح الدستورى، فالدستور وحده هو الذى يضع «قواعد اللعبة»، ويبين هل تتركز السلطات فى يد واحدة أم تتوزع بين سلطات مستقلة، الدستور هو الذى يضمن «دولة القانون»، بأن يصبح القانون فوق الجميع - حاكماً أو محكوماً - وليس أداة فى يد الحاكم. الدستور هو الذى يضمن استقلال القضاء ليس فقط فى مواجهة أعمال الترهيب من السلطة التنفيذية مثل التهديد بالفصل أو العزل، وإنما هو الأهم فى مواجهة أساليب الترغيب والغواية مثل التلويح بإطالة سن التقاعد أو زيادة الرواتب أو مزايا الصناديق الخاصة، الدستور هو الذى يقيد المحاكم الاستثنائية ويعيد المواطن لقاضيه الطبيعى، الدستور هو الذى يضمن شفافية المالية العامة وضمان إخضاع جميع المصروفات للرقابة، الدستور هو الذى يوفر استقلال أجهزة المحاسبة، وأهم من هذا وذاك، الدستور يضمن حرية الاعتقاد وحرية التعبير وحرية تكوين الأحزاب، الدستور هو الذى يحدد مدة رئاسة الجمهورية، ويضمن تداول السلطة ويمنع التوريث الصريح أو الضمنى، الدستور يحول دون استمرار الأحكام الاستثنائية إلى ما لا نهاية.. والقائمة طويلة. لكل ذلك، فإننى أعتقد أن الدكتور البرادعى قد صاحبه التوفيق عندما ركز على الإصلاح الدستورى وإلغاء قوانين الطوارئ، وإعلان دولة القانون، فهذه هى أهم معالم «قواعد اللعبة»، والتى تسمح للبرامج الحزبية - بعد الإصلاح الدستورى وليس قبله - بأن تكون ذات فاعلية ودلالة. ولم يكن غريباً - والحال كذلك - أن تجد دعوة الدكتور البرادعى استجابة من العديدين من أطياف حزبية متنوعة، لأنها تشترك جميعاً فى حاجتها إلى وجود أرضية سليمة للمنافسة بين الآراء والبرامج الحزبية المختلفة، فالمطلوب - فى هذه المرحلة - هو التوافق على دستور ديمقراطى يضمن حقوق الأفراد وحرياتهم، ولا يركز السلطات فى جهة واحدة بل يوزعها فى توازن وتعاون بين القوى المختلفة، كما يضمن الدستور تداول السلطة بحيث يصبح دور الشعب هو المرجح بين مختلف الآراء والتوجهات. وفى ضوء الإجماع الشعبى النسبى على أهمية الإصلاح الدستورى، فإن الإصرار على المطالبة - الآن - ببرامج حزبية مفصلة يصبح دعوة لتفريق الجهود وشق الصفوف، إذا كان هناك ما يشبه الإجماع على أن الدستور الحالى قد ولد من رحم دساتير للحكم الفردى مع تحسينات تجميلية هنا وهناك، فهو يظل دستوراً مكرساً لتركيز السلطات فى يد السلطة التنفيذية وعلى رأسها رئيس الجمهورية. المشكلة الرئيسية فى مصر هى مشكلة «قواعد اللعبة»، أى هى مشكلة «الدستور». وإذا تحقق، إجماع أو شبه إجماع حول هذه الحقيقة، فلا حاجة بنا إلى إثارة الخلافات - الآن - حول البرامج التفصيلية للأحزاب. فالمطالبة ب«التغيير» ليست مطالبة بتنفيذ برنامج حزبى بقدر ما هى مطالبة الأمة بدستور يليق بها. التغيير هو مطلب للأمة وليس مطلباً لحزب أو أحزاب. والله أعلم www.hazembeblawi.com