كثيراً ما يحدث خلط بين ما تعنيه كلمة الدولة وما تعنيه كلمة الحكومة، فهناك فرق كبير بين المعنيين، فالحكومة هى ذلك الجهاز الإدارى الضخم الذى يدير شؤون الدولة، والدولة هى كل الوطن، بمؤسساته التشريعية، والتعليمية، والدينية، وجيشه الوطنى، وأجهزته الأمنية الداخلية والخارجية من رجال الشرطة، والأمن القومى، وممتلكاته العامة، ومرافقه ومصانعه، الدولة هى كل شىء على أرض الوطن، والحكومة لها مهام محددة، والدولة لها سيادة وهيبة وكرامة، والمواطن والحكومة هما جزء من الدولة، والحكومة تتلقى التكليفات الخاصة بمهامها من رئيس الدولة وأعضاء البرلمان الذى من المفترض أنه يمثل كل فئات الشعب، وإن قصرت الحكومة فى أداء مهمتها يحاسبها أعضاء المجلس، ويستجوبوا أى فرد فيها بدءًا من أحدث وزير، ونهاية برئيس الوزراء، وإذا لم تؤد الحكومة مهامها على الوجه الأكمل فمن حق أعضاء المجلس أن يقيلوا الحكومة، ويسحبوا الثقة من أى وزير فيها، لذلك إذا أخطأت الحكومات فيمكن محاسبتها على الأقل نظريا، وإن كان عمليا لا يمكن محاسبة الحكومات المصرية مهما عظمت الأسباب، لأن الأغلبية المطلقة داخل مجلس الشعب يملكها الحزب الوطنى، الذى يدير شؤون البلاد لصالحه، لذلك فهو فضلا عن أنه لن يحاسب الحكومة يوما ما، فإنه لا يسمح لأحد بمحاسبتها مهما كانت الأسباب، ولكن أياً كانت الأوضاع فإن الحكومات فى النهاية قابلة للحساب والعقاب، والإقالة وسحب الثقة. ولكن الدولة لها سيادة وكرامة وهيبة، فإذا ضاعت هيبة الدولة لا سمح الله فقل على الدنيا السلام، ولكن ما يحدث من حالات الانفلات والتسيب الجماعى لا يبشر بالخير، فأراضى الدولة وأملاكها على سبيل المثال ليست ملكا لحكومة الحزب الوطنى لكى يوزعها على أصحاب النفوذ والحظوة كيفما يشاء، ورغم ذلك فكل الأصوات التى تعالت، مطالبة بعدم التفريط فى أراضى مصر - التى هى ملك لكل المصريين، وثروة الأجيال المقبلة المتبقية لهم من أصول الدولة التى بيعت برخص التراب ضمن صفقات مشبوهة ومريبة - ألقموها حجرا لتصمت، مدعين أن كل شىء تم بيعه بشفافية! ووفقا للوائح والأصول المتبعة!، فنمضغ الهواء ونسكت جميعا، ولكن علينا أن نشعر بالخطر الحقيقى، عندما نكتشف حوت أراضى طريق الإسكندرية الصحراوى (المدعو بركات)، الذى استولى على آلاف الأفدنة ليستصلحها، ثم قسمها إلى مساحات صغيرة وباعها بملايين الجنيهات، ثم نصب على الجميع ولم يسلم المشترين أراضيهم، وبعد ذلك نكتشف أن الأراضى غير مصرح له بالبناء عليها، وعندما تصدر ضده أحكام قضائية بإخلاء الأرض يرفض تنفيذها، وعندما يطالب المواطنون بحقوقهم نفاجأ بجيش من البلطجية مسلحين بالرشاشات، مستعدين لقتل كل من تسول له نفسه ويحاول الاقتراب من ممتلكاته التى استولى عليها بطرق غير شرعية، فهذا هو الاعتداء على سيادة الدولة، وإهدار هيبتها. وعندما يحدث تحرش جماعى ببناتنا ونسائنا، فى وضح النهار، وفى أكثر المناطق ازدحاما ( شارع جامعة الدول العربية )، ويتهم فى هذا الاعتداء الجماعى على شرف و حرمة المرأة المصرية أكثر من أربعين رجلاً وشاباً وحدثاً، فهذا مؤشر خطير للمساس بهيبة الدولة وسيادتها. وعندما يتصدى بعض الخارجين على القانون فى سيناء بالرشاشات، ويهاجمون رجال الأمن بهذه الضراوة، ثم يتظاهرون بالسيارات الضخمة بأعداد كبيرة، فهذه ظواهر تهدد سيادة وهيبة الدولة. وعندما تزرع عشرات الأفدنة نهارا جهاراً بالقنب الهندى، والحشيش، والأفيون، والبانجو، وتنتشر هذه الظاهرة فى صعيد مصر وصحراء سيناء، فنحن أمام اعتداء صارخ على هيبة الدولة وسيادتها. وعندما نقرأ عن سرقات بنوك بالأسلحة الرشاشة فى سابقة لم تشهدها بلادنا من قبل، فنحن وسيادة الدولة وهيبتها فى خطر. عندما تتحول ظاهرة الاعتداء على تلاميذ المدارس الصغار الأبرياء بهذه الطرق الوحشية من قبل بعض المدرسين لدرجة القتل وإزهاق أرواح براعم صغيرة لا تملك من أمرها شيئا، وعندما تمتد أيادٍ آثمة لبعض المدرسين المرضى لعفة طفلة أو طفل فى الحضانة، لتتحرش بهم جنسيا، فنحن أمام حدث خطير يمس كرامة مصر وهيبتها. وهذا الانفلات والتسيب الذى يصل إلى حد المساس بهيبة الدولة، لم يهبط علينا من السماء فجأة، إنه نتيجة تراكمات سنوات وسنوات من عجز الحكومة للسيطرة على أمن وأمان الشارع المصرى، والمشكلة ليست أمنية فقط، هناك عشرات العوامل الأخرى، منها بشكل أساسى تدهور العملية التعليمية عبر أجيال متعاقبة، ومنها أسباب ثقافية لأننا اعتمدنا ثقافة المهرجانات بديلا لثقافة المجتمعات، ومنها أسباب تتعلق باستشراء الفساد، وتبوؤ المفسدين المعروفين بالاسم أرفع المناصب، وأهم المواقع وأكثرها حساسية، ومنها استبعاد النخب المخلصة، من العلماء النابهين فى شتى المجالات عن مراكز اتخاذ القرار، وإقصاؤهم تماما بعيدا عن مجالات تخصصهم، لحساب أنصاف وأرباع الموهوبين،الذين تسلقوا بالفهلوة وصعدوا لأعلى المراكز، وتولوا قيادة المجتمع المصرى وفقا لأهوائهم. وهكذا.. ينسحب دور الدولة، وهذا أمر بالغ الخطورة، فالحكومة يمكن تقويم أدائها ومحاسبتها وإقالتها، ولكن هيبة الدولة وسيادتها أمر لا يمكن تداركه بالخطب، والاحتفاليات، وكرنفالات الحزب الوطنى المسلية.