اجتهادات فى حد السرقة (2) ممن تعرض لهذا الموضوع، وأسىء فهمه أيضاً، الدكتور معروف الدواليبى، وقد روى هو نفسه قصة ذلك فى مقال له بمجلة العربى (العدد 177 أغسطس 1973 ص99- 101) فقال: أخبرنى منذ أيام بعض الأصدقاء من كبار هيئة العلماء فى الرياض أن الدكتور أحمد عبيد الكبيسى، مدرس الشريعة الإسلامية بجامعة بغداد، قد نشر فى مجلتكم الغراء فى العدد 166 الصادر فى شهر رجب 1392ه- سبتمبر 1972م كلمة تحت عنوان «الحكم بقطع يد السارق فى الشريعة الإسلامية»، وأنه قد جاء فيها «إن بعض الباحثين، ومن هؤلاء معروف الدواليبى فى كتابه: (المدخل إلى علم أصول الفقه) الصفحة 321، قد ذهبوا إلى جواز إلغاء السرقة أو تبديلها بعقوبة أخرى تبعاً لتغيير الأزمان والأحوال وأن لولى الأمر الحق فى تكييف عقوبة السرقة حسب الظروف والمقتضيات، وأن هؤلاء ومن وافقهم على أصل جواز تغيير الأحكام المنصوص عليها إذا دعت إلى تغييرها مصلحة حتى ولو تعارض ذلك مع نصوص الكتاب والسُنة، وأنهم أخذوا بوقوع النسخ كدليل على جواز تغيير الأحكام المنصوص عليها، وأنهم اعتبروا عدم قطع غلمان حاطب لما سرقوا تصرفا فى النص وتعطيلاً للحد»، ثم أنهى هذا الكاتب كلمته بقوله «أما وقد تم التشريع الإسلامى وأكمل الله دينه، وعقوبة السرقة على حالها، فليس لأحد أن يدعى أنه يعلم من وجوه المصلحة ما غاب عن علم الله تنزه ذكره، ومن شقى بادعاء ذلك اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظالمين». وأنكر الدكتور معروف الدواليبى ما ادعاه الكاتب فى مقال مسهب ختمه بقوله: يتضح من هذه النصوص الواردة فى كتابى «المدخل إلى علم أصول الفقه» أننى لم أقل قط «بجواز إلغاء عقوبة السرقة تبعا لتغير الأزمان»، ولا قلت بالتصرف بالنص وتعطيل الحد، وإنما نقلت الحكم بوقف تنفيذ القطع عام المجاعة بعد الأمر بالقطع، وذلك لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولم أقل قط «بجواز تغير النصوص أو تعطيلها إذا دعت إلى ذلك مصلحة»، كما عرف ذلك عن الطوفى، والفرق خطير بين جواز تغير الأحكام الزمنية، وبين الزعم بجواز تغيير النصوص الثابتة وتعطيلها وهذا ما رددته رداً صريحاً وحذرت منه ودعوت إلى العمل بما أجمع عليه الأئمة الأربعة من رفض ذلك وعدم جواز الأخذ بالمصلحة «إذا تعارضت مع نصوص الكتاب والسُنة» ولذلك لا يجوز للكاتب الأستاذ الكبيسى أن يأخذ بمفاهيمه المغلوطة وأن يهمل نصوصه الصريحة، وأن ينسب إلىّ ظلماً ما قد صارحت بالتحذير منه، وخاصة ما نسبه إلى من سوء فهم لما استشهدت به من كلام ابن القيم رحمه الله ظنا منه أننى استشهدت به لإسقاط النص أو للتصرف فيه وتعطيله مما أبرأ إلى الله منه ومن سوء فهمه. ومن الكتاب المعاصرين الذين قدموا اجتهادا فى موضوع السرقة الأستاذ عبدالله العلايلى، وهو من جهابذة اللغة فى لبنان فى كتابه «أين الخطأ؟» وخلاصة ما انتهى إليه فى موضوع الحدود قوله «أن العقوبات المنصوصة ليست مقصودة بأعيانها حرفياً، بل بغاياتها». ويستطرد: وليس معنى هذا الرأى أن عقوبة «القطع» فى السرقة، ليست هى الأصل، وأنها لا تطبق، بل أعنى أن العقوبة المذكورة غايتها الردع الحاسم، فكل ما أدى مؤداها يكون بمثابتها، وتظل هى الحد «الأقصى.. الأقسى»، بعد أن لا تفى الروادع الأخرى، وتستنفد ومثلها «الجلد» فى موجبه. ولأنتقل إلى تبيان رأيى، الذى ينهض على إقامة مطلق الردع مقام الحد عينه، إلا فى حال الإصرار، أى المعاودة تكراراً ومراراً «فآخر الدواء الكى»، وأستأنس بحديث: «لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار»، وإن لم يخل سنده من مقال. أما المبادرة إلى إنزال الحد عينه- فعدا عن أنه لا يتفق مع روح القرآن، الذى جعل القصاص صيانة للحياة وإشاعة للأمن العام، وليس لجعل المجتمع مجموعة مشوهين، هذا مقطوع اليد، والآخر الرجل، والآخر مفقوء العين أو مصلوم الأذن أو مجدوع الأنف.. إلخ، لا يتفق مع القواعد النحوية فقد لحظه جيداً المبرد فى كتابيه: الكامل والمقتضب.. فالقرآن، إن فى السرقة أو الزنى، عبّر بصيغة اسم الفاعل (السارق والسارقة)، (الزانية والزانى)، ومعروف أن التحلية بأداة التعريف، فى هذا المورد، تجعله أقرب إلى النسبة منه إلى مجرد التلبس بالحال الفعلية، فكثيراً ما دلت صيغة اسم الفاعل عليها، مثل طالق، فارك.. إلخ . وعليه فالتبادر، الذى هو علامة الحقيقة فيهما، يحمل على أنه من باب النسبة إلى السرقة والزنى، أى من غدا هذا وهذا ديدنه، ويقوى الفهم المذكور، الآية اللاحقة لآية السرقة (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) {39 المائدة}، أى تترك له فرصة للاستتابة وإصلاح السلوك، وإلا كانت مقحمة إقحاماً فى مجال حكمى ولا معنى لها ويقويه أكثر فأكثر، الآية (فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) {178 البقرة}. وهذا التأكيد على «البعدية» بالنص الصريح، يقطع عرق النزاع، فى أنه لا قطع ولا جلد ولا حد إلا بعد استتابة ونكول، وإصرار معاود للمعصية. انتهى. ■ ■ ■ وقام الدكتور إسماعيل على معتوق، عضو مجلس الشعب عن دائرة قنا (1976/ 1977م)، بشىء من الاجتهاد وفى مشروع قانونه الذى قدمه إلى المجلس بتعديل قانون العقوبات تعديلاً يصبح بمقتضاه قانوناً إسلامياً كاملاً إذ جاء فيه: المادة 312: وقد لاحظ بعض الفقهاء والباحثين أن كلمة السارق وكلمة السارقة وصفان لا فعلان والوصف لا يتحقق فى الشخص إلا بالتكرار فلا يقال لمن ظهر منه الجود مرة إنه جواد ولا لمن وقع منه الكذب مرة إنه كذاب ولا للفاسق الذى لا يقول الحق أو المنافق الذى لا يخفى ما لا يبديه إذا صدق مرة إنه صادق أو صدوق إنما تقال هذه الأوصاف لمن يتكرر منه فعلها حتى تكون اسما له وعنوانا يعرف به، وبتطبيق هذا على كلمتى السارق والسارقة يكون المستحق للقطع هو من صار هذا وصفا له، ولا يكون ذلك إلا بتكرار الارتكاب ولا يكون بالفعل مرة واحدة فلا تقطع إلا يد السارق العائد. ومما يرشح لهذا الرأى ما ورد فى مؤخرة الآية (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، ولا تكون التوبة النصوح فى الغالب ممن يتكرر منه بالفعل بل إنها تكون لمن يرتكب الفعل بجهالة ثم يتوب من قريب ولذلك يقول الله تعالى (إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، فضلا عن أن المخزومية التى قطع الرسول يدها قد عرف عنها أنها معتادة السرقة فكانت لا ترد الودائع التى تودعها ولا العوارى التى تستعيرها وبالإضافة إلى ذلك، فقد روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه لما أراد قطع يد شاب سرق قالت له أمه: اعف عنه يا أمير المؤمنين فإن هذه أول مرة فقال لها عمر: إن الله أرحم من أن يكشف ستر عبده لأول مرة. والواقع أن الآثار الواردة لم يكن فيها ما يشير إلى وجوب التكرار لإقامة الحد وأن رسول الله قطع يد رجل سارق رداء آخر وضعه فى مثل حرزه بالمسجد دون أن يسأله أسبق منه ذلك أم لم يسبق إلا أنه يقال إن السرقة فى هذا المكان وفى مثل هذه الحال لا تكون إلا ممن تكررت منه السرقة، فضلا عما أجمع عليه الفقهاء من أن القطع لأول مرة لم يعرف مخالف له إلا تلك الرواية عن عمر رضى الله عنه والتى لم يكن فيها تصريح باشتراط التكرار. غير أن المشروع قد أخذ بهذا الرأى الذى جعل الحد فى السارق العائد لأنه هو الأقرب إلى تفسير لفظى السارق والسارقة وأن الحالتين اللتين رويتا عن الرسول كانتا من شخصين، عرفت أولاهما بأنها تجحد العوارى ولا ترد الودائع ففيها صفة الاعتداء على المال وأخراهما مقتحم على مكان مقدس لا يجرؤ على الاقتراب منه إلا من جبلت نفسه على الشر واستمرأت روحه الجريمة، وذلك شأن المعتاد، وذلك بالإضافة إلى أن هذا الرأى وإن كان حديثا إلا أنه خلق شبهة قوية لها سندها من اللغة والتطبيق تعين بها درء الحد على نحو ما درج عليه المشروع عند كل اختلاف بين الفقهاء- فلا يجوز تطبيقه على من سرق لأول مرة وهذا ما نصت عليه المادة 311 من المشروع بل يتعين أخذه بالتعزير، ثم أن هذا المشروع يتعرض لوقت اعتاد فيه الكثير الاعتداء على الأموال لوهن العقوبات الحالية وعدم جدواها فى الصد عن هذا النوع من الجرائم فأصبح من المتعين التدرج معهم كنوع من التربية على الحياة الطاهرة الجديدة وضرب من تورط فى السرقة للمرة الأولى مع تنبيهه بأن يده ستقطع إن عاد إلى السرقة فإن عاد فلا يلومن إلا نفسه وهذا التدرج له ما يسوغه فهو لا يصطدم بالنص: صريحه أو فحواه. نقول لو أن السادة الذين اجتهدوا فى موضوع السرقة بدءاً من الشيخ عبدالمتعال الصعيدى حتى الأستاذ معتوق راجعوا تفسير الآية 31 من سورة النجم (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ)، لوجدوا فيها ما يؤيد اجتهاداتهم فقد جاء فى تفسير ابن كثير عن أبى هريرة أن اللمم من الزنى ثم يتوب ولا يعود وعن الحسن أنه قال اللمم من الزنى والسرقة أو شرب الخمر ثم لا يعود، وتكرر إيراد روايتى أبى هريرة والحسن اللتين أوردهما ابن كثير فى تفسير الطبرى وجاء فى تفسير الطبرى عن عبدالله بن عمرو قال اللمم ما دون الشرك، (كما جاءت هذه الروايات أيضاً فى تفسير القرطبى). ولا شك أن الرسول وأبا بكر وعمر وغيرهم من الصحابة استظهروا هذه الآية عندما كانوا يلقنون المتهم الإنكار ويدفعون عنه الحد بكل الوسائل على نقيض الفقهاء الذين أعملوا النص دون أن يعودوا به إلى مثل هذه الآية بحيث يكون حكمهم جامعاً ما بين نص الحكم والنص القرآنى الذى يرتفق على نص الحكم، وبهذا يسقط الحد فى الحالات الأولى، لأن الله تعالى سبق بالعفو عنها أو أسقطها من كبائر الإثم والفواحش. وختامه مسك.. بالنسبة للتشكيل الجديد للمجلس القومى لحقوق الإنسان قيل إن من المحتمل تعيين شخص من جهاز الأمن فى وظيفة الأمين العام للمجلس، وأود أن أقرر- وقد عايشت السفير مخلص قطب الأمين العام للمجلس كعضو فى لجنة حقوق الإنسان المتفرعة من اتحاد أمناء الإذاعة والتليفزيون التى رأسها- أنه خير من تعامل مع القضية من جميع جوانبها، وأن وظيفة الأمين العام هى مثل وكيل الوزارة مما لا يتغير حتى مع تغير الوزراء، وأعتقد أن كل أعضاء اللجنة- بمن فيهم الدكتورة زينب رضوان وكيل مجلس الشعب- يشاركوننى هذا الرأى الذى آمل أن يضعه المسؤولون فى الاعتبار. [email protected] [email protected]