المشهد فى قرية «جرزا» ممتلئ بالصخب، لا يمكن للناظر من الوهلة الأولى تحديد بدايته أو نهايته أو اتجاه الحركة فيه. فى «جرزا» على بعد 15 كيلو متراً من العياط يرقد حطام قطارين اصطدما، الأول يحمل رقم 188 المتجه من الجيزة إلى الفيوم، والثانى 152 المتجه من القاهرة إلى أسيوط. على طريق الصعيد السريع يمكن مشاهدة الحادث بوضوح، إضاءة كشافات الإنقاذ مسلطة على القطارين، والقطارالخلفى ملتحم بآخر عربات القطار الأمامى. يقف نحو ألف من أهالى قريتى «جرزا» و«بمها» بالعياط، بعضهم يتأمل المشهد غير قادر على عبور المصرف المائى وتجاوز التبة التى يستقر عليها القطاران، وفى وسط هذا الزخم يخرج إبراهيم عبدالتواب ومعه 6 من أهالى القرية يحاولون ردم المصرف المائى ببقايا القصب، ليسمح للأهالى وقوات الإنقاذ بالعبور، يدرس المصرف جيداً ويتأكد من وجود بقايا أساسات خشبية لمعبر قديم، يرممه إبراهيم، ويخلع قميصه ويلقى به فى عربته ربع النقل ويرتمى داخل المصرف حاملاً «عدة» الطوارئ من السيارة، يدق القوائم الخشبية ويتأكد من ثبوتها ومتانتها، يخرج بسيارته مسرعاً فى الوقت الذى يكمل فيه باقى الأهالى عملية دق القوائم، يعود محملاً سيارته ببقايا قصب، يلقيه بجوار المعبر ويحمل القصب بيديه لاستكمال هذا المعبر، يقول إبراهيم: «من كذا سنة عاصرت برضه حادثة القطارين عند العياط اللى ناس ياما ماتوا فيه» منهم أهالى ناس بلدياتنا كنت أعرفهم، لكن للأسف ماعرفتش أعمل حاجة لأنى ماكنتش موجود وقتها فى مكان الحادث، لكن لما الحادثة دى حصلت كنت تحت كوبرى العياط ولقيت عربيات إسعاف جاية سألت قالولى دول قطارين برضه، جريت بعربيتى علشان أساعد لأنى عارف المنطقة كويس». على الناحية الأخرى من المصرف وبجوار القطار تقف فرق الإنقاذ ورجال الأمن العام، يحملون كشافات قوية تساعدهم على الدخول إلى القطارين قبل أن يقوموا بقطع القطارين بالمنشار تمهيداً لفصلهما، يجلس محمود صابر، رجل فى نهاية الثلاثين، يدفن وجهه بين يديه ويتنفس بصعوبة من فرط الإنهاك. محمود من أوائل الأهالى الذين سمعوا بالحادث، ووصل للمكان بعدها بنحو نصف ساعة يقول: «العالم كانت بتتحرك وبتجرى فى كل حتة، مشهد رهيب، ساعتها كل واحد كان مشغول فى حاله، أغلب ركاب القطار بيجروا وهمّا مساكين، أصل الخضة بتشل تفكيرهم فيبقى صعب عليهم إنهم يخرجوا من الموت ويفكروا ينقذوا حد، عشان كده بياخدوا وقت عقبال ما يبدأوا يشاركوا الأهالى، خصوصاً إن الصراخ والعويل بيبقى فى كل حتة حواليك وده مابيخلكش تسمع حد خالص». بعد وصول محمود لمكان الحادث، يدخل العربات قبل الأخيرة، ينقذ المصابين، يحمل البعض خارجاً بهم من القطار، البعض مصاب بكسر فى القدم، بينما رائحة الدم تغلف المكان، يضيف: «أنا كان هدفى أنقذ المصابين فى العربيات اللى الدخول ليها سهل الأول، أما العربيتين اللى لازقين فى بعض فلما جيت أدخلهم معرفتش، كل اللى قدرت أعمله أطل براسى لكن الموضوع محتاج حد بيعرف يتحرك فى المكان كويس، عشان كده استنيت رجالة المطافى». ينتهى محمود من كلامه فيدفن رأسه بين يديه مرة أخرى، ينظر، تلتقط أنفاسه رائحة دم فى ملابسه فيقول محدثاً نفسه: «هدومى كلها بقت مليانة دم.. الله يرحم اللى ماتوا، محدش بيحافظ على دمهم ده». بجوار العربتين المتصادمتين يقف عبدالخالق، وهو شاب فى منتصف العشرينيات مع أمين شرطة، يخرجان سيجارتين، يتطوع عبدالخالق بسرد القصص التى يصعب التأكد من صدقها، يتحدث: «الجاموسة» ليست شاردة كما أشيع، بل أحد الفلاحين كان يجرها وهرب بمجرد اصطدام القطارين، وبالمثل سائق القطار الأمامى، الذى يؤكد أنه هرب هو ومساعده. يمسك هاتفه المحمول ويبدأ فى تصوير المشهد فيديو، وهو يكمل الحكاية لأحد الواقفين، فيعلق: أهى الناس مابتفتكرش العياط غير لما يبقى فيها مصيبة، خلينا نصور، أصلنا مش هنشوف الناس دى كلها ملمومة تانى إلا لما يبقى فيه مصيبة تانية وبكرة أفكركم، بس ربنا يكرم وما أبقاش أنا اللى جوه المصيبة عشان أعرف أفكركم».