عندما بدأت فى المقال السابق (المصرى اليوم 18/10) الحديث عن «مصر ما بعد مبارك»، مقترحا بعض الأفكار التى قوبلت برد فعل يمتد من الإدانة الشاملة إلى القبول الكامل، شعرت بالحاجة إلى مزيد من التوضيح لما أعتقده من أهمية وحيوية للفترة القصيرة المقبلة وما تنطوى عليه من تحديات هائلة، مطروحة علينا نحن الشعب المصرى والنخبة المصرية. لقد عرفت مصر – منذ استقلالها المشروط عام 1922 – حتى الآن، حقبتين متتاليتين من الحكم: الحقبة الأولى بين 1922 و1952 (التى تعارفنا على تسميتها بالحقبة الليبرالية)، عرفت مصر فيها حكما ملكيا دستوريا، ونظام حكم شبه ليبرالى يقوم على التعدد الحزبى، وتوافرت فيها درجة معقولة من الحريات السياسية والمدنية. لقد انتهت هذه الحقبة بقيام ثورة يوليو 1952 التى بدأت معها الحقبة الثانية، وهى حقبة النظام الجمهورى ذى الطابع السلطوى اللاديمقراطى الذى يقوم على الحزب الواحد، وتقييد الحريات السياسية والمدنية. وتأثرت المراحل المختلفة داخل تلك الحقبة بالاختلاف الهائل بين شخصيات الرؤساء الثلاثة الذين توالوا فيها: من الكاريزمية الطاغية لدى عبد الناصر، إلى الدهاء والمقامرة لدى السادات، إلى الميل الشديد للاستقرار ونبذ المغامرة لدى مبارك! ولكن ظلت – ولا تزال – الملامح السلطوية اللاديمقراطية للنظام قائمة، حتى مع تغير «الشكل الخارجى» من الحزب الواحد إلى التعدد الحزبى، للتلاؤم مع التغيرات التى جرت فى العالم، وانحناء أمام عواصف الضغوط الخارجية والداخلية للتوجه نحو مزيد من الديمقراطية. لقد طالت الحقبة الثانية – حقبة نظام يوليو – ما يقرب من ستة عقود، أى ضعف مدة الحقبة الليبرالية السابقة لها، ولكن حصادها للأسف الشديد كان أقل بكثير منها، والآن تشهد حقبة يوليو مرحلة أفولها. وبعبارة أخرى، فإن انتهاء فترة حكم الرئيس مبارك سوف تكون (أو، بتعبير أدق، ينبغى أن تكون) نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة ثالثة. إنها – بعبارة ثانية – ليست مجرد تغيير حاكم بآخر، ولكنها ستكون (أو ينبغى أن تكون) تغيير نظام بنظام آخر، أى أن يستبدل بالنظام السلطوى اللاديمقراطى نظام ديمقراطى حقيقى يستجيب لآمال وطموحات الشعب المصرى. وهنا أود أن أذكر ملحوظة خاصة، فعندما طرح الرئيس مبارك – بشكل مفاجئ – فى فبراير 2005 فكرة اختيار رئيس الجمهورية من خلال انتخابات تنافسية بين مرشحين متعددين، بديلا عن الاستفتاء على مرشح واحد، تصورت حينها أن تلك مقدمة جادة لإحداث تحول جذرى فى النظام السياسى نحو النمط الديمقراطى الحقيقى، خاصة أن إمكانية حدوث تغيير داخل النظام السياسى فكرة واردة نظريا، بل وحدثت فى حالات تاريخية كثيرة (كما حدث مثلا فى الصين وإسبانيا والمغرب... إلخ). كما أن تلك الخطوة أتت فى زخم الضغط الدولى نحو الديمقراطية (الذى أعقب حوادث سبتمبر 2001)، وكنت أنا شخصيا أحد الذين صاغوا وثيقة الإسكندرية فى عام 2004، التى تحدثت عن الحاجة لتغيير ديمقراطى شامل فى مصر والوطن العربى. غير أن ما تصورته كان وهما كبيراً! فقد عملت قوى كثيرة فى الحزب الوطنى والحكومة، على أن تكون هذه البدايات مجرد واجهات شكلية لا أكثر، لتفادى الضغوط الخارجية. وتجسد هذا – فى النهاية – فى التعديل المشين للمادة 76 من الدستور، التى قننت – فى الواقع– أسوأ مظاهر النظام اللاديمقراطى فى إطار من الشكل الديمقراطى «المزيف». الآن، ونحن فى نهاية عام 2009، فإن ما رفضت المجموعة الحاكمة القيام به بإرادتها الحرة، وتحايلت عليه فى 2005، أصبح فى عام 2009 تحديا واقعيا بحكم التطور الطبيعى للزمن، أى بحكم تقدم السن بالرئيس مبارك، وحتمية التفكير فيما بعده، ومن بعده. وهذا هو - مرة أخرى – جوهر رفض فكرة التوريث، أى رفض استمرار النظام القديم، الذى كان «التوريث»، ولا يزال، إحدى سماته الأساسية، سواء كان توريثا سياسيا أو عائليا، كما سبقت الإشارة. هذه إذن لحظة فارقة فى التطور المعاصر للنظام السياسى المصرى، وفى تاريخ الشعب المصرى. وعلينا أن نعترف بأن خمسين عاما من الحكم اللاديمقراطى ومن إلغاء «السياسة» بمعناها الحقيقى من الحياة المصرية، نأت بالغالبية الساحقة من الشعب، وفى مقدمتهم الشباب والطلاب، عن السياسة والحياة السياسية. وعمل النظام بدأب – من خلال أجهزته الأمنية – على «الإخصاء» السياسى للأجيال المتوالية، بحيث آل الأمر إلى الصورة المهينة الحالية من اغتراب الغالبية الساحقة من الناس، ولامبالاتهم إزاء مصيرهم ومستقبلهم. غير أن هذا لا ينفى – مرة أخرى – أننا الآن قد أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من اللحظة الفاصلة، لحظة الانتقال إلى نظام جديد، وإلى حقبة ثالثة فى تطورنا السياسى المعاصر كدولة حديثة مستقلة! تلك حقيقة تلقى على النخبة السياسية المصرية، بجميع فصائلها، مسؤولية ثقيلة لا سبيل إلى التنصل منها، ولا مجال الآن للانشغال عنها بمعارك ثانوية أو فرعية. إننى أعود من هنا، من هذا المنبر، لأكرر الدعوة لجميع القوى السياسية الحية فى المجتمع المصرى، من أحزاب ونقابات وجمعيات وحركات وشخصيات مستقلة، بلا استثناء، لكى نلتقى معا، من أجل وضع تصور واضح وعملى للتحول نحو نظام ديمقراطى حقيقى بديل للنظام القائم، وألا ننتظر لحظة مفاجئة نجد فيها أنفسنا فى فراغ موحش. غير أن أصواتا (نعرفها مقدما!) يمكن أن ترتفع على الفور، وتقول: ما هذا الهراء؟ وما هذه الأوهام؟ إن مصر بلد مستقر له دستور ومؤسسات سياسية، وإذا حدث طارئ فإن ما يقضى به الدستور والقانون سوف يطبق بشكل آمن وسلس! ولكن جوابى أن ذلك غير صحيح، وأن ما سوف يحدث فعليا – إذا حدث فراغ مفاجئ فى السلطة – هو حالة أشبه بالفوضى الشاملة، لأكثر من سبب: أولاً: إن الدستور الحالى نفسه معيب، وكلنا يعلم أن المادة 76 جرى تفصيلها على نحو مشين، لتناسب فقط مرشحا يفرضه الحزب الوطنى. ثانيا: إذا افترضنا أن الأمور سوف تكون هادئة، فإن أقل ما سوف يحدث بداهة هو الصراع داخل الحزب الوطنى بين شلة «التوريث» وباقى الحزب. ولأن الحزب الوطنى مرفوض شعبيا، فإن اختياراته، سواء كانت الوريث أو غيره، سوف تقابل برفض شعبى لا شك فيه. ثالثا: إن الاحتمال الأكبر – فى تلك الحالة، وإزاء حالة الفوضى التى سوف تهدد بالانتشار - هو أن تتدخل على الفور المؤسسة السياسية الأهم – حتى الآن – فى مصر، أى القوات المسلحة، لحفظ الأمن والنظام! بل ربما كان الاحتمال الأكبر هو أن تظهر القوات المسلحة على المسرح، فى نفس لحظة اختفاء الرئيس، قبل أن يسعى الحزب إلى لملمة نفسه، بل إن هناك احتمالا كبيرا بأن «يتبخر» الحزب نفسه فور اختفاء رئيسه. الحاجة إذن لبلورة رؤية سياسية واضحة، تجمع عليها جميع القوى السياسية الحية فى مصر، التى تستشعر المسؤولية إزاء وطنها، مسألة ليست محل جدل أو نقاش. وحتى إذا آلت الأوضاع إلى القوات المسلحة، فإن من المهم أكثر أن تكون للقوى المدنية، الموحدة والمتماسكة، رؤيتها الواضحة، المتوافق عليها، للتحول الديمقراطى الآمن، والتى سوف يتعين على الجيش أن يحميها ويتجاوب معها. فى هذا السياق، يمكن تصور عدد من المبادئ العامة التى يلزم توفيرها لتحقيق الانتقال الآمن لنظام ديمقراطى فى مرحلة ما بعد مبارك: الأول: ضرورة وجود فترة انتقالية بين النظام الآفل والنظام البازغ، لأن من المستحيل تحقيق هذا التطور بين عشية وضحاها، بل سوف يكون مطلوبا على الأقل دستور جديد، وتنظيم شامل لنظم وآليات الانتخابات الحقيقية والنزيهة، وحل لمشاكل عديد من المؤسسات التى لا تتوافق مع التطور الديمقراطى، بل والتى تعرقله... إلخ. بل ربما كانت المشكلة الكبرى هى أن قطاعات واسعة من الجماهير، خاصة بسبب الأمية (؟!!) والفقر المدقع، وانعدام الخبرة الديمقراطية، سوف تظل بعيدة عن السياسة، وعن المشاركة الفعالة فى العملية الديمقراطية. الثانى: وجود «هيئة محايدة» تدير شؤون البلاد فى الفترة الانتقالية، فضلا عن الإشراف على تنفيذ الإجراءات – السابق الإشارة إليها– التى تمهد السبيل للتحول الديمقراطى. الثالث: وضع أولويات واضحة للتغيير الديمقراطى المنشود، والإقرار بعدد من المبادئ التى تضمن إتمام التحول بأكبر قدر من الاستقرار. فالتحديات جسيمة، والمهمة (أى بناء النظام الديمقراطى البديل) ليست بسهلة، ولكن لا بديل عنها.