هل يقبل النظام الحاكم الحالى تشكيل مجلس أمناء للدولة والدستور يضع خطة للانتقال من مرحلة لأخرى أفضل؟ هل يقبل النظام تفكيك قبضته والتنازل عن سلطته؟ ولو قبل النظام اقتراح الأستاذ محمد حسنين هيكل بإنشاء هذا المجلس، هل يتصور أن يضم نفس الأسماء التى تضمنها الاقتراح أم سيضم أعضاء من أمانة السياسات لينتهى بنا الحال لكارثة أكبر؟ الخلاف فى الرأى مع الأستاذ محمد حسنين هيكل لايعنى انتقاصا من قيمته ومكانته، فالاختلاف فى الرؤى والأفكار طبيعة بشرية.. وهيكل احتل مكانته المرموقة بين كتاب العالم ومفكريه لالتصاقه الشديد بمراكز صناعة القرار خلال فترة تاريخية معينة، بل إنه شارك فى صناعة وصياغة بعض القرارات فى هذه المرحلة، وهو مالم يتح لكاتب غيره وبخاصة خلال ربع القرن الأخير.. وفى الجزء الأول من حواره مع صديقنا مجدى الجلاد، ذهب الأستاذ هيكل لنفس التشخيص الذى يتفق عليه معظم أصحاب العقول والضمائر الحية من المفكرين والكتاب والمثقفين فى مصر.. فمصر بلا حياة سياسية، ومصر بلا أحزاب حقيقية، ومعظم المحترمين ينصرفون، والإخوان فى مصر لايريدون مواجهة تاريخهم أو مراجعة أفكارهم.. ولكن هيكل طرح فى حواره مع «المصرى اليوم» رؤية للحل .. فدعا لإنشاء مجلس أمناء للدولة والدستور، يكون هدفه نقل البلاد من مرحلة لمرحلة أخرى بعد رسم خريطة للسلطة، والتفكير فى حماية البلاد من سيناريو الفوضى.. واقترح أيضا أن يكون من بين أعضاء هذا المجلس شخصيات تحظى باحترام الجميع مثل زويل والبرادعى وعمرو موسى وعمر سليمان ومجدى يعقوب وحازم الببلاوى، وأن تكون المؤسسة العسكرية ممثلة فيه. والاقتراح - بلا شك - وجيه.. وهو اجتهاد فى الرأى يجب احترامه على كل حال.. ولكننى أعيب عليه رومانسيته الشديدة.. ومثل هذا المجلس المقترح يجب أن يصدر له قرار رئاسى أو برلمانى حتى يكون شرعيا.. فلو تم تشكيله كحركة شعبية سينتهى به الحال كحركة كفاية وأخواتها.. أى أنه يجب أن يخرج من رحم النظام.. والنظام القائم حاليا برجاله ومصالحه وسلطاته وثرواته وتشابك علاقاته، لايمكن أن يقبل أبدا بأى إجراء يهدد وجوده، ومعنى المجلس الذى اقترحه الأستاذ هيكل بهذه الأسماء أن السلطة ستزول من قبضة النظام ورجاله، بل إنه سيشجع كثيرا من المحترمين الذين انصرفوا بالفعل للعودة والمشاركة، أى أن الشعب سيكون رقما فى المعادلة السياسية.. ولايقر عاقل بأن نظاما كالذى نتحدث عنه بصلاحياته المطلقة وتركيبته الفريدة سيقبل المساس بسلطاته ومصادر قوته.. وحتى لو كان الضغط الشعبى شديدا لدرجة أن يرضخ النظام فيوافق على الاقتراح، سينتهى بنا الحال لمجلس يضم أصحاب المصالح لتكون النتيجة الانتقال من مرحلة سيئة لمرحلة أسوأ. ولعل الأستاذ هيكل يتذكر تلك الضجة الكبرى التى صاحبت الاقتراح بتعديل 34 مادة دستورية والتى أصبحت حقيقة واقعة فى الدستور بعد الاستفتاء عليها.. وكانت القوى السياسية قد ظلت لسنوات طويلة تطالب بدستور جديد أو تعديلات جذرية فى الدستور.. ولكن الطريقة التى استجاب بها النظام، أسفرت عن تعديلات دستورية لترسيخ السلطة، وكذلك أسفرت عن تعديل إضافى للمادة 76 التى أصبحت أطول وأغرب مادة دستورية فى العالم، لدرجة أن بعض أساتذة القانون الدستورى يصفونها بأنها لاترقى لأن تكون نصا فى لائحة تنفيذية لشركة صغيرة.. ولم تكن المادة 77 الخاصة بتحديد مدة الرئاسة والتى كانت محل خلاف رئيسى بين النظام والقوى السياسية كلها ضمن التعديلات المطروحة، رغم أن تحديد سقف زمنى للرئاسة يعد ضمانا لنزاهة الحكم وأملا فى التغيير وأساسا للعملية الديمقراطية، وفوق هذا وذاك هى مطلب شعبى عام.. أى أننا نتحدث فى واد بينما النظام يفعل مايريده فقط فى الوادى الآخر !! وربما أختلف قليلا مع الأستاذ هيكل فى أن المجلس المقترح سيحمى البلاد من سيناريو الفوضى.. فقد أصبحنا فى حالة الفوضى بالفعل.. والفوضى ليست مجرد أعمال عنف وشغب، فهذه أبسط أنواع الفوضى والنظام قادر على مواجهتها.. ولكن الفوضى الحقيقية هى التى يقدمها لنا النظام بالفعل عن طريق تعطيل القوانين الطبيعية.. فلايوجد فى العالم كله دولة ظلت فى حالة طوارئ أكثر من 28 عاما متصلة.. ولك أن تتخيل أن من تخرجوا فى كلية الشرطة عام 1981 أصبحوا الآن على رتبة العميد، أى أنهم اقتربوا من التقاعد ولم يستخدموا القانون الطبيعى فى التعامل مع المواطنين منذ انخراطهم فى العمل، فهل يمكن أن يتبدل الحال بسهولة؟ أليس تعطيل القانون الطبيعى هو قمة الفوضى؟ أليست الفوضى من صنع النظام وليست مجرد عرض يقلقه ويشغل باله؟ فماالذى طرأ الآن ليدفع النظام للتنازل والتغيير؟ والحقيقة أننى أختلف بشدة مع الأستاذ هيكل – مع خالص احترامى وتقديرى له – فى رأيه الخاص بعدم وجود ديمقراطية قبل ثورة يوليو، وقد دلل على ذلك بأن السير سمارت تدخل بنفسه لحذف كلام النحاس من مضبطة البرلمان لأنه وجه اللعنات لكل الناس – حسب نص الحوار – وأنه انتقد رئيس الديوان الملكى نكاية فى الملك.. وهنا يغيب عن التقييم أن مصر وقتها كانت تحت وطأة الاحتلال البريطانى، فإذا كان لدى النحاس القدرة على توبيخ رئيس الديوان الملكى والنكاية فى الملك وقت الاحتلال، فهل لدينا من يستطيع الآن؟ وإذا كانت الديمقراطية غائبة قبل ثورة يوليو فى رأى الأستاذ هيكل، فلماذا لم تولد بعدها رغم زوال الاحتلال؟ ربما يكون هذا الحوار مع هيكل هو الأفضل له خلال السنوات الأخيرة لأنه يتحدث فيه عن المستقبل، وهو أفضل بكثير من حواراته فى الجزيرة.. ولكنه طرح أفكارا مستقبلية تحتاج لمناقشة، وتحتاج لسبل واقعية لتفعيلها.. فليس مهما أن يقتنع الناس بكل مايكتبه الكاتب، ولكن الكاتب الناجح هو الذى يثير خيال الناس ويدفعهم للتفكير والتعبير والتغيير. [email protected]