تبدو القلعة شامخة عن بعد كما لو كانت قد قدت من صخر الجبل فى قلب الصحراء الليبية.. قلعة القاهرة.. اسم لابد أن يستهوى المصريين، وإن لم يكن له علاقة بمصر.. سموها كذلك لأنها قهرت المستعمرين مرتين.. فى 1914 هزم فيها الإيطاليون وفى 1948 كانت هزيمة الفرنسيين على يدها كذلك.. أمر يثير العجب، إذ ما الذى أتى بهؤلاء الغرباء إلى هنا على بعد 800 كيلومتر من شاطئ البحر، ثم كيف لليبيين الذين كانوا عندئذ مجرد بدو رُحَّل أن يسحقوا قوتين عظميين فى أوج سطوتهما الجبارة؟!. لكن بلدة «سبها» كان لها على الدوام سحر غامض فى تاريخ ليبيا.. ومن بين البلدات الليبية جميعا هى التى تملك مفتاح ليبيا الحديثة.. هى التى أوت معمر القذافى عندما كان طالبا فى مدرستها الإعدادية.. وفى سنه المبكرة هذه بدأت مشاعر نقمته على الاستعمار الغربى وسط الأحداث العاصفة التى كانت تموج بها بلدان العرب.. ثورة مصر فى 1952، وثورة الجزائر فى 1954، وتأميم قناة السويس ثم العدوان الثلاثى فى 1956 والمواجهات مع حلف بغداد، والوحدة بين مصر وسوريا فى 1958.. كان عبدالناصر محور هذا الغليان هو الذى ألهم الفتى اليافع أن يشكل مع عدد من أقرانه ما سماه «حركة الوحدويين الأحرار» فى عام 1959.. منذ ذلك اليوم وهم يتطلعون من جوف الصحراء إلى الوحدة العربية الكبرى. مضى اليوم خمسون عاماً على قيام الحركة التى أشعلت ثورتهم فى ليبيا بعد ذلك بعشر سنوات.. لذلك أتينا إلى «سبها» لنشارك الليبيين الاحتفال، بعد رحلة طويلة لم يضننا فيها السفر بقدر ما أرهقتنا فوضى التنظيم.. لكننا وصلنا فى النهاية.. نحو مائتين من الضيوف، بيننا ملوك قبائل أفريقية، وزعماء أحزاب وأساتذة جامعات ونواب وأدباء وصحفيون القاسم المشترك بين معظمهم أنهم خريجو سجون القمع العربية.. كلهم يجمعهم الإحباط مما يخفيه المستقبل من مفاجآت لفلسطين والصومال والعراق والسودان ولبنان واليمن.. واحد بيننا فقط هو الذى يعرف تماماً ما سيأتى به له الغد، صديقنا المرشح الرئاسى التونسى الذى سيخسر حتماً أمام الرئيس بن على. مشينا جميعاً نحو سفح الجبل حيث أعد مسرح مفتوح كبير احتشد بالألوف من أهل «سبها»، تطل عليه منصة اصطففنا فيها لنستمع إلى كلمات متقدة بالحماس من بعض من رافقوا معمر فى المسيرة منذ تشكيل الحركة، ثم إلى كلمة «القائد» كما يلقبه الجميع هنا.. ظهر فى بذلة يميل لونها إلى الكاكى، لكنها ليست بذلة عسكرية.. كان يبدو فى هذا الزى البسيط أكثر أناقة من الصورة المعتادة فى الأثواب المزركشة التى أحياناً ما تعلوها خريطة أفريقيا أو صورة المجاهد الليبى الأكبر عمر المختار.. وكان يبدو أكثر وقارا وأقل اندفاعا أيضاً.. لم يطرق المائدة بقبضته، ولا رفع يديه وصوته مهللاً هاتفاً كعادته، ولم يقذف بورق بين يديه كما فعل فى الأممالمتحدة أثناء كلمته. كان يسترجع ذكريات خمسين عاماً بكثير من الصفاء وبعض من السخرية التى انصبت على ضيوفه من ممثلى الأحزاب كشلال ماء بارد.. حكى لنا عن المناخ السياسى الذى كان قائماً فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى عندما كان يتحسس طريقه بين ألغام الأحزاب.. لم يفهم حينئذ أن يشكل بعض المسلمين جماعة إخوان مسلمين وكل المسلمين إخوان، ولا لماذا ينضم إلى الشيوعيين وهم كفرة مكّتهم موسكو، ولا كيف يدعو البعثيون إلى وحدة وهم منقسمون على أنفسهم بين سوريا والعراق.. هكذا اختار طريقه بعيداً عن هؤلاء جميعاً.. الأقرب له كان عبدالناصر. لكنه وهو يستذكر تلك الأيام ويفخر بأنه قاد فيها مظاهرة وهو طالب فى 5 أكتوبر 1961 بعدما حدث الانفصال، لم يذكر اسم عبدالناصر الذى ألهب لديه شرارة الأحاسيس القومية.. تحصيل حاصل لا داعى لتأكيده كما قال أصدقاؤنا الليبيون، وإن كان الحاضرون من الناصريين تجاوزوا الحكاية على مضض.. رغم ذلك كان عبدالناصر حاضراً ساطعاً عندما جاء المساء.. انتقلنا إلى ساحة أخرى عندما أزف موعد الحفل الساهر الذى أحيته فرقة موسيقية مصرية يقودها المايسترو المبدع سليم سحاب.. جاءت الفرقة بطلب من معمر.. أراد أن يستعيد شريط ذكريات الخمسينيات بموسيقاه التصويرية التى نسجتها أغانى الثورة المصرية. جلس هو على المنصة يحيط به ضيوف الشرف القادمون من مناحى الأرض جميعاً.. وفى الحديقة جلس العشرات من المسؤولين الليبيين متحلقين حول عدة موائد يتناولون العشاء، وكنت بينهم.. ضمت المائدة التى جلست إليها وزراء ومحافظين وقادة جيش وأقطاب لجان شعبية.. إلى يمينى كان محمد بلقاسم الزوى، واحد من رفاق القذافى الأربعة فى أول خلية حركية للثورة.. عرفته عام 1970، بعد قيام الثورة بعام، عندما كان مديراً للإذاعة ثم وزيراً للإعلام فالعدل، فسفيراً فى عواصم عدة آخرها الرباط.. مر بنا وجه ليبيا الأشهر فى مصر أحمد قذاف الدم، وهمس فى أذنى بحكاية الطباخين الذين أهداهم زعيم يوغوسلافيا تيتو إلى «القائد».. ومعهم سفرجية إيطاليون هم الذين قدموا لنا العشاء.. تبهج معمر كثيرا مثل هذه اللفتات.. سادة ليبيا فى الماضى يخدمون ضيوفها اليوم، رغم أنه عفا عن إيطاليا بعد أن اعتذر برلسكونى عن حقبة الاستعمار ودفع التعويض المناسب.. طربنا فى تلك الليلة كثيراً عندما بدأت الموسيقى فى عزف تلك الأغنيات التى لم نعد نراها فى أى فضائية عربية بين مئات الفضائيات السقيمة التى سممت آذاننا وهويتنا.. اهتزت جوانحنا ونحن نشدو «والله زمان يا سلاحى»، وعندما أرعدت الفرقة بنشيد «الله أكبر فوق كيد المعتدى» طرقنا الموائد بالشوك والسكاكين لنضبط الإيقاع، وبدأ الحاضرون فى استدعاء ذاكرتهم مع «وطنى حبيبى الوطن الأكبر»، من الذى غنى هذا المقطع أو ذاك، فايزة أَمْ شادية؟. آه أيتها الأيام الخوالى كم تصيبيننا بالوجع، وتذكريننا بأن السنين ولت وأن المشيب تسلل إلى القلب!.. قَطع الغناء بعدئذ عرض نسائى للأزياء يمثل مناطق ليبيا المختلفة.. أتتنا الأزياء الساحرة والوجوه الفاتنة هى الأخرى بعد فوات الأوان، متأخرة خمسين سنة عن الأيام التى كنا نظن أنفسنا فيها فرسان الغرام.. لكننا أفقنا قليلاً عندما أشعل محمد ثروت نيران الذكريات فى الصدور وهو يردد «صورة صورة صورة، صورة للشعب العربى تحت الراية المنصورة».. الراية المنصورة؟!.. عادت العيون تدمع، وأطرقت الرؤوس التى كانت منتشية بالطرب.. ثم كانت الضربة القاضية من شاعر سوريا الكبير «عمر الفرا» الذى ألقى قصيدة عن غزة طعننا بها فى القلب وهو يشير بسبابته للجمع الحاضر: قُتلتم يوم أن قُتلت، أُكلتم يوم أن أُكلت، فتهيأوا وترقبوا نفس المصير. ران صمت مزلزل والحفل يوشك أن ينتهى.. قلت لجارى: أتعرف؟.. هذه الليلة تذكرنى بليلة قضيتها فى براج منذ سنوات قليلة.. كنت فى صحبة صديق لا يزال يؤمن بالماركسية حتى بعد سقوط تشيكوسلوفاكيا «أو قيامها، قل ما شئت».. دعانى مع بعض من رفاقه الشيوعيين القدامى إلى ناد ليلى فى المدينة القديمة.. يذهبون عادة إلى هناك فيعبّون الفودكا حتى يكادوا أن يسقطوا إعياءً.. عندها يطلبون من الفرقة الموسيقية أن تعزف لهم بعضا من أغانى الماضى، فإذا ما بدأوا يغرقون فى البكاء ينفض السامر. ها نحن نبكى مثلهم دون حاجة لفودكا والجمع ينفض.. وإلى جانبى فى الطائرة العائدة إلى طرابلس أستاذ جامعى من القدس ينقل لى آخر أخبارها التى كان قد تلقاها فى الطريق.. الصهاينة يحاصرون بيت المقدس وأبومازن يسحب تقرير جولدستون من مجلس حقوق الإنسان فى جنيف.. «تقدم الصهاينة إلى المسجد الأقصى ليس هو المهم»، هكذا قال.. «الأخطر أننا اعتدنا على ذلك.. صحيح أن بعضنا رابط فى المسجد، لكن آخرين يرتضون بالصلاة فى المساجد الصغيرة المجاورة». قلت له لا تقسوا على أنفسكم كثيراً.. أنتم فى قبضة محتل فاجر سافل باطش.. الله لنا نحن فى القاهرة.. خوفاً من مظاهرة احتجاج من أجل القدس، أصبحنا نصلى الجمعة فى الأزهر بالبطاقة!.. لكن لماذا نجلدُ بالسياط مصر وحدها؟.. عدا مظاهرة هنا وهبّة هناك، فى البحرين أو الأردن أو موريتانيا، تخاذلت أمة العرب والمسلمين جمعاء عندما دعاها الداعون لإعلان الجمعة يوم غضب للأقصى.. لم يعد لنا سوى تركيا وأردوغان، هم الذين سلمنا لهم القيادة. حتى ليبيا، ليبيا الثورة، ليبيا الوحدة، ليبيا كذا ليبيا كيت، صحيح أنها طلبت انعقاد مجلس الأمن لمناقشة تقرير جولدستون، لكن ناسها لم يغضبوا.. لم تشهد ليبيا مسيرة تنديد واحدة، لا بعد صلاة الجمعة ولا قبلها.. الحدث الذى دوى فى طرابلس قبل أن يذهب الناس إلى الصلاة هو أن «القائد» طلب ممن حوله فى اجتماع مغلق أن يتركوه يخفف عناء مسؤولياته ويستريح.. الأسد المتعب أعيته إذن تقلبات الصحاب وغوائل الزمن.. ظل يزأر وهو يقاوم حصار أمريكا، وهو يراوغ فى لوكيربى، وهو يناور مع الممرضات البلغار، وهو يداور مع إيطاليا، لكنه عندما انكشفت الغمة أخيراً وصفا غبار المعارك فوجئ بأن حصاره الحقيقى لم يكن من خارج ليبيا وإنما من داخلها.. استنزفته اللجان الثورية والمؤتمرات الشعبية والشعارات الزائفة والبيروقراطية العفنة.. أما إخوانه العرب فلم يدخروا وسعاً فى إنهاكه، تماماً كما أنهكهم.. وهكذا فعندما جئنا إلى «سبها» ظناً منا أننا سنحتفل معه بمرور نصف قرن على إطلاقه حركة «الوحدويين» الأحرار التى أراد أن يحقق بها حلم الوحدة العربية، إذا بنا أمام الحقيقة الصادمة، أننا نعزيه ونبكى معه ضياع الحلم!.