إنه ذلك السياسى الألمانى الذى عمل مستشارا لبلاده - وهى الوظيفة المعادلة لمنصب رئيس الوزراء - لسنوات طويلة بدأها مع دولة ألمانياالغربية وأنهاها مع دولة ألمانيا الموحدة، لذلك فقد لعب الرجل دوراً كبيراً فى توحيد شطرى البلاد وإسقاط حائط «برلين» كما أن عهده اقترن بإنجازات ضخمة ونجاحات مشهودة، خصوصاً على الصعيدين الاقتصادى والتكنولوجى، ولقد جاءت نهاية فترة وجوده فى السلطة بغير ما كان يشتهى فلقد تكالب عليه الخصوم السياسيون وأحاطت به الانتقادات من كل جانب، وتلك ظاهرة مكررة عندما تطول سنوات وجود المسؤول فى سدة الحكم! والرجل طويل القامة، ضخم الجثة، ولقد أتاحت لى ظروف عمل سابق أن ألتقيه فى اجتماعات محدودة العدد وأراقب تصرفاته الشخصية التى لا أنساها، فقد كان يقوم بتركيب «فوطة» فى «ياقة» قميصه لتغطى النصف الأعلى من جسمه قبل أن يشرع فى التهام الأطباق الموجودة أمامه، ولقد كنت أتردد كثيراً قبل ذلك فى وضع «فوطة» الطعام بهذه الطريقة التى تشبه طريقة وضعها فى صالونات الحلاقة قبل أن يبدأ مقص الحلاق فى تشذيب الرؤوس! ولكننى عندما رأيت مستشار ألمانيا يفعل ذلك فى المآدب الرسمية لم أجد حرجاً فى أن أضع «الفوطة» بهذه الطريقة كلما سنحت الظروف، خصوصاً بعدما فقدت عدداً من أربطة العنق نتيجة أحداث مؤسفة أثناء الاندماج فى تناول الطعام! ولكن الذى أدهشنى كثيراً ولازلت أتذكره فى كثير من المناسبات هو ما رأيته من السيد «هيلموت كول» ذات صباح وعلى مائدة «إفطار عمل» مبكر فقد كان ذلك الرجل الضخم الذى يبدو مولعاً بالأطعمة الدسمة والمشروبات الملطفة يقوم بخلط «الكافيار» بالزبد ويضربهما معاً بالملعقة وبكميات كبيرة وحين يختلطان تماماً تبدأ عملية تسليم وتسلم من الملعقة إلى فمه بشكل يثير الدهشة لأننى لا أتصور أن رجلاً فى عمره ليست لديه أى مخاوف من ارتفاع نسب «الكولسترول» أو تزايد معدلات الدهون فى الدم ولكن يبدو أنها فى النهاية قضية «جينات» موروثة أكثر منها عادات غذائية مكتسبة، إنه أيضا «هيلموت كول»، الذى ارتبط اسمه بالبرنامج المصرى الألمانى المشترك للنهوض بالتعليم والارتقاء بالتدريب وتأهيل كوادر مصرية شابة مهيأة للعمل الحقيقى فى سوق المنافسة الحرة لدى المجتمعات الاقتصادية الحديثة، وهو أيضاً الزعيم الأوروبى صاحب الإسهامات الكبيرة والبصمات الواضحة على الدور الألمانى داخل الاتحاد أثناء فترة إتمام الوحدة والانتقال من عاصمة ألمانياالغربية، مدينة «بون»، إلى العاصمة التاريخية للدولة الألمانية «برلين»، وهو الذى قاد عملية تعويض اقتصادى ضخمة فى الشطر الشرقى من الدولة الموحدة للنهوض بمؤسسات ألمانياالشرقية وإدماجها فى إطار الدولة الألمانية الموحدة والمتقدمة فى المجالين الاقتصادى والتكنولوجى بفارق كبير، ولقد نجح الرجل فى مهمته إلى حد كبير حيث استطاع إدماج الاقتصادين القائمين فى شطرى البلاد بعد تحقيق الوحدة، ولقد زرت إحدى الجامعات الألمانية العريقة لحضور محاضرة تذكارية لواحد من علماء «نوبل» هو المصرى الأمريكى «أحمد زويل» حيث كان يتحدث يومها - من الناحية العلمية - عن فضل العرب والمسلمين على الحضارة الغربية المسيحية فى العصور الوسطى وإسهاماتهم فى تشكيل ملامح عصر النهضة الأوروبية Renaissance وقد اتخذ «زويل»، يومها، من عالم البصريات العربى «الحسن بن الهيثم» نموذجاً للتدليل العلمى والتوثيق التاريخى لصحة ما ذهب إليه ذلك العالم الكبير ولقد احتشد له، ذلك اليوم، المئات من علماء ألمانيا يستمعون ويجادلون ويضيفون، ولقد لفت نظرى، يومها، أن تلك الجامعة العريقة كانت تقع فى الشطر الشرقى من مدينة «برلين» قبل استعادة وحدة الدولة التى أهانتها الحرب العالمية الأولى ثم مزقتها الحرب العالمية الثانية والتى مازالت تعانى حتى اليوم من عقوبات المنتصرين على دولة «الرايخ الثالث»، ولاشك أن المستشار الألمانى «هيلموت كول» قد مارس أدواراً شجاعة وناجحة فى النهوض بالاقتصاد الألمانى الموحد وتطوير بقايا النظام الاشتراكى وآلياته التى كانت سائدة قبل إتمام الوحدة وضخ مليارات «المارك» الألمانى حينذاك لتحسين أوضاع شركاء الوطن القادمين من شرق البلاد بعد عقود من القسوة والحرمان، ولقد ذكّرتنى نهاية «هيلموت كول» السياسية بنهاية ذلك السياسى البريطانى الداهية «ونستون تشرشل» - الحائز على جائزة «نوبل» فى الأدب - عندما خذله الناخب البريطانى بعد أن كسب ذلك السياسى الكبير الحرب إلى جانب الحلفاء فإذا البريطانيون يصوتون لصالح «كليمنت اتلى» رئيساً جديداً لحكومة عمالية قائلين (إن «تشرشل» قد كسب لنا الحرب فدعنا، الآن، نمضى مع مَنْ يكسب لنا السلام) إنها حصافة الشعوب الناضجة عند الاختيار الصعب لذلك لم يكن غريباً أن يتم إقصاء «هيلموت كول» من منصبه نتيجة التغيير فى مراكز القوى داخل حزبه، فالمواطن الألمانى مثل نظيره البريطانى لا يعرف إلا لغة المصالح ولا ينساق وراء هوس العواطف وبريق «الكاريزما»، وها هو «هيلموت كول» قابع فى منزله يجترّ الذكريات، ويروى المزيد عن قصة حياته وأسرار فترة حكمه.